في اللحظة التي تفصل حدود اليقظة عن النوم العميق، في تلك الهنيهة الخاطفة التي تسبق انعتاق النفْسِ في فضاء الأحلام، تكتـنف الشخص النائم حالة سكون، يتولى فيها وعي الباطن زمام الأمور. أما الجسد فيشهد حركة متباطئة لاإرادية في نبضات القلب وتماوج الرئتين... تُحضِّر النفس لتغوص في عالم الباطن، بعد أن ثَمِلت بهباتٍ من أثيره...
غريبة أنفاس الشخص النائم وهي تتباطأ، إلى أن تندثر منها آخر ومضة إرادية، فتصبح تحت سيطرة الجهاز اللاإرادي... سفير وعي الباطن في الجسد. ترى، ما الذي يتحكم في عملية التنفس خلال النوم وفي معظم أوقات اليقظة؟ هل تلك الميكانيكية الضرورية لاستمرار الحياة هي رهن رسائل الدماغ – هذه الكتلة العصبية المادية؟ ثم ما هو تأثير التنفّس على النَّفْس، عدا أنه يؤمن الأكسوجين لأعضاء الجسد والخلايا؟
للإجابة عن تلك الأسئلة، سنبحث أولاً في ماهية النَّفَس ودور التنفس على الصعيدين المادي والباطني...
ماهية النَّفَس ودور التنفّس:
يفيد علم الأحياء (أو علم نشوء الحياة – البيولوجيا) أن الهواء الذي نتنشقّه، يحتوي على الأكسوجين والكربون والنيتروجين وعناصر أخرى تتواجد في نسبٍ ضئيلة. والهدف الأساسي الظاهري من عملية التنفس هو إنتاج الطاقة الكيميائية التي يحتاجها الإنسان من خلال اندماج وتفاعل الأكسيجين مع المواد الغذائية. هذه الطاقة الكيميائية ضرورية للقيام بالوظائف الحيوية والحركة والنمو والمحافظة على درجة حرارة ثابتة في الجسد... لكن هل تلك الطاقة الكيميائية هي الظاهرة الوحيدة على مسرح الجسد أم أنها تطوي وراء ستارها أبعاداً خيميائية تنشط اللامرئي في الكيان؟!
لنجيب على هذا السؤال، علينا أن نتوغّل في ما وراء ستارة الجسد، لنضيف إلى تلك المعلومات العلمية الظاهرية النواحي الباطنية الخافية، حتى تتجلّى الصورة كاملةً. تفيد علوم باطن الإنسان – الإيزوتيريك أن الإنسان يحتاج إضافة إلى الأكسيجين والطاقة الكيميائية، إلى طاقة حياة معروفة قديماً باسم "برانا Prana" يستمد منها، من جملة ما يستمد، قوة البقاء والاستمرارية. تشرح علوم الإيزوتيريك أن تلك الطاقة الكونية متواجدة في الفضاء اللامحدود وهي تتجسد في الكون تحت اسم‘ الوجود‘ ... وعلى الأرض تحت اسم ‘ الطبيعة‘ ... و في الانسان تحت اسم ‘ الحياة‘ ...
طاقة البرانا هي غذاء للنفس:
انطلاقة النفْس في التأمل أو النوم
إذن، يبدو أن النَّفَس، بالإضافة إلى العملية الكيميائية والبيولوجية، يتسم ببعدٍ خيميائي باطني، وبارتباط مباشر بالنَّفْس وبنَفَس الحياة.
انطلاقة النَّفَس من الصدر، ترتبط بالمحبّة، كون موقع الرئتين على موازاة شاكرا جسم المحبة والقلب. من هنا كانت حاسة الشم الباطنيّة ترتبط بجسم المحبة عبر شاكرا القلب...
في سفر التكوين (2: 7) ورد التالي: "... ونفخ في أنفه نسمة حياة فصار آدم نفسا حيّة". ولا عجب في أن لفظة "روح" ولفظة "حياة" تشبهان وقع النَّفَس وهو يخرج أو يدخل الرئتين. وأن أحرف كلمة نَفْس تكوّن أيضاً كلمة نَفَس، بعد تحوّل السكون على الفاء إلى حركة، علماً أن النَّفَس هو أساس تحوّل الحياة في النَّفْس، من حالة سكون إلى حالة حركة في عرف المادة.
لعلّ انطلاقة النَّفْس في التأمل العميق أو في النوم إلى العوالم الماورائية، تشبه انطلاقة النَّفَس من الرئتين في عملية الزفير. وفي سبيل المقارنة الرقمية، إذا كان معدل حياة الإنسان 72 سنة، فذلك يعني أن انطلاقة النَّفْس في النوم تتكرر حوالي 72x360= 25920 مرة كمعدّل في حياة واحدة على الأرض. إذا اعتبرنا أن معدل التنفس في اليوم الكامل 18 نفَس في الدقيقة (كما تحدده بعض المراجع العلميّة)، يكون عدد الأنفاس 18x60x24= 25920 نفس في اليوم (وهو الرقم نفسه). إذاً عدد الأنفاس في يوم واحد يساوي تقريباً عدد انطلاقة النفس ليلاً في حياة كاملة. وهذا الرقم أيضاً هو عدد السنين التي تدور فيها الأرض دورة كاملة حول محورها (25920) وتدعى بالسنة الأفلاطونية، وهي توازي أيضاً عدد السنين في دورة العصور.
صحيح أن هذه الأرقام تقريبيّة، ويمكن أن تختلف بين شخص وآخر، إلا أننا اذا تمعنا في تلك الحقائق، نستشف كيف تربط معادلات الأرقام بين حركة الرئتين وباطن الإنسان ونظام الشمس والكواكب، وكيف تخضعها لمعادلات موحدة. إن الأرض تتنفس، لتكرير الجو والطاقة الذبذبية فيها... والطبيعة بأكملها تتنفس، كل كائن حي يتنفس، وكل خلية فيه تتنفس. وجسد الإنسان يتنفس الأكسوجين، كما يتنفس من طاقة الأجسام الباطنية ومن أنفاس الحياة. كلّ ذلك يخضع لمعادلات موحَّدة، تنعكس في كل نَفَسٍ يسبح في فضاء الكون، وفي نَفَس الكون الذي يصدح في فضاء الإنسان. صدق الإمام علي (عليه السلام) في قوله "أوتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر!"
ما الذي يسيّر عملية التنفس ؟
يفيد الطب بأن النخاع المستطيل (وهو جزء من النخاع الشوكي مكانه قاع الجمجمة من أسفل) يتحكم بعملية التنفس، ويتألف مركز التنفس فيه من خلايا عصبية تنظم عملية الشهيق وأخرى تنظم الزفير. كما تنتشر مستقبلات حسية في الأوردة السباتية في العنق (أي على موازاة شاكرا الحلق او البلعوم) وفي الشريان الأبهر الصدري للمساهمة بتنظيم عملية التنفس. يتصل النخاع المستطيل أيضاً بالجسر وهو قسم آخر من جذع الدماغ الذي يؤمن التناغم في عملية الشهيق والزفير ويساعد في تنظيم التنفس.
إذن حسب الطب، الدماغ والأعضاء المادية هي التي تسيّر عملية التنفس. هذا صحيح على الصعيد العضوي أو الظاهري، إلا أنه ليس مكتملاً. فعملية التنفس، في غاية الأهمية لاستمرار الحياة ولا يمكن أن تكون رهن عمل عضو مادي فقط.
إن ما يعتري الإنسان من مشاعر وخبرات نفسية وروحية لا يحدث جراء تفاعلات رسائل الدماغ المادية بل تلك الرسائل العصبية ليست سوى انعكاس لما هو غير مادي وراء ستارات الجسد المادي. مقالة "علم الأعصاب الديني والنشوة الروحية" بقلم عبد الرسول محمد في عدد 44 من مجلة الأبعاد الخفية تناولت هذه المسألة وذكرت أن: "العمل المخبري تركز فقط على الجانب المادي وعلى قياس تغيّرات الدماغ دون مراعاة لأية متغيرات أخرى في الموضوع على الرغم من أهميتها".
على العلوم أن تعتبر في أبحاثها كامل مكونات كيان الإنسان لتكتمل الصورة وتبان الناحية الباطنية أيضاً من عملية التنفس. من هنا، يجب اعتبار أبعاد الأجسام الباطنية الذبذبية التكوين وعمل مراكزها (الشاكراتchakras )، وهذا العمل ينعكس ظاهرياً في عمل الدماغ والرئتين. من هذا المنطلق نوضح النقاط التالية:
أولاً، وكما أشرنا سابقاً، إن التنفس يؤمن، من جملة ما يؤمن، طاقة الحياة "برانا" وهي طاقة لامادية، لذا لا يمكن أن تتحكم فيها الأعضاء المادية.
ثانياً، تتصل تلك الطاقة بالجسم العقلي خلال عملية التنفس، إذ تنجذب عناصر الهواء مغناطيسياً إلى شاكرا الحلق (المركز الباطني للجسم العقلي)، حيث تجري غربلتها وتنقيتها بطاقة لتتوزع إلى أعضاء الجسد كما يشرحها كتاب الإيزوتيريك "علم الألوان (الأشعة اللونية الكونية والإنسانية)" في صفحة 213، بذلك تخضع طاقة الحياة في النفس لبرنامج وعي محدد في مراكز الوعي (الشاكرات)، ويلعب الجسم العقلي دوراً مهماً في تشرب تلك الطاقة وتنظيم حاجتها.
ثالثاً، في عملية التنفس، تدخل الطاقة عبر التنفس لتزود الكيان بالحيوية واستمرار العيش، لكن ذلك الغذاء الباطني لا يبقى رهن سيطرة الدماغ وحده، ولا حتى رهن عملية التنفس فقط، إذ تدخل طاقة الحياة أيضاً من الغدة النخامية إلى الشاكرات لتسيّر الأعضاء اللاإرادية وبالتالي تتحكم حتى بعمليّة التنفس! لذلك حتى في حالة الغيبوبة، لا يبقى كيان الإنسان من دون ذلك الغذاء الحيوي، إذ تدخل طاقة الحياة من خلال الغدة النخامية.
وعي عمل الأعضاء اللاإرادية والمعادلات الرقمية
طاقة الحياة تؤمن برنامج عمل الأعضاء اللاإرادية في الجسد. فبالرغم من عدم تمكن إرادة النفس الظاهرية من النهل من طاقة الحياة وبرنامج عملها، لم يُتْرك الإنسان، بل مَدّته الذات العليا بتلك الطاقة، لاإرادياً أو لاوعياً من النفس الدنيا... إلى حين يتفتح وعي الإنسان وتستيقظ إرادته الجبارة... فالإنسان يستطيع أن يتحكم بأعضائه اللائرادية، متى تطور في الوعي وارتقى فوق درجة تذبذب هذه الطاقة. فمحتواها لا يقتصر على الصحة والحيوية فقط، بل على معادلات ذبذبية...
أخيراً نستنتج أن على الإنسان أن يتنفس لتستمر الحياة، ولكن عليه أيضاً أن يعرف كيف يتنفس لتكون هذه الحياة نَفَسَ وعيٍ في كيانه وطاقة غذاء لباطنه...
في مراقبة عملية التنفس واختلاف وقعها على النفس، يتمدد الوعي إلى هذه العملية اللاإرادية، ليضيف إليها حسّ الإرادة وييساعد على تشرب طاقة الحياة في الكيان، في كل خلية وذبذبة في الإنسان. علماً أن التنفس وفق إيقاع رقمي معيّن، لديه نتيجة باطنية تختلف عند اختلاف الإيقاع، وعند اختلاف مدة الشهيق وحبس النفس والزفير...
وبما أن المعادلات الرقمية هي من خصائص ومكونات المنطق الباطني والبرمجة الذاتية سواء كان ذلك على صعيد الجسد أو أجهزة الوعي، لذا نستنتج أن في تلك الطاقة، برنامج عمل وتوعية... وإلا لما تأثر الكيان باختلاف المعادلات الرقمية في نمط التنفس. نلاحظ أيضاً أن تركيز الفكر أو وعي الظاهر على نمط رقم معيًّن في التنفس، يؤثر على أجهزة الإنسان الباطنية ومراكزها، وكأنه (الفكر أو وعي الظاهر) يدوزنها على إيقاع محدد، لتلتقط برنامج محدد مما تحويه طاقة الحياة في صميمها.
الفارق شاسع بين من يعتبر الأرقام صماء، أو عمليات حسابية فقط يقتصر وجودها حبراً على ورق، في كتب الدراسة والعمل، ومن يحمل معادلاتها إلى عمق رئتيه، وإلى فضاء فكره ونمط حياته اليومية.
حقاً إن الحياة وحدة، لكن عندما عجز الإنسان عن فهمها كاملةً، تجزّأت طاقتها في أنفاسٍ عديدة، يتنفسها ويتشربها كيان الإنسان، ليعي محتوى الأجزاء، التي تعكس مكونات الوحدة مهمة مستقبلية لكل ساعٍ على درب التطور والوعي، أن يتوسع بوعيه ليعي عملية التنفس اللاإرادية وما يتأتى عنها مادياً وباطنياً. بما أنها تحوي البعد الإرادي واللاإرادي معاً، سوف تكون صلة وصل بين وعي حواس الجسد ووعي عمل الأعضاء اللاإرادية كالقلب.
لتحقيق ذلك، تبقى التمارين وسيلة فرعية لها منافعها، لكن الوسيلة الأساسية، لا بل الهدف، هو طريقة الحياة العملية اليومية التي تجعل وعي الظاهر يتطابق مع إرادة وعي الباطن. هذه الطريقة عمادها التطبيق العملي وسيلة التحقق والعمود الفقري في معرفة الذات...