"بسم الله الرحمان الرحيم "
الترادف يعني اشتراك لفظين أو أكثر في حمل معنى واحد باعتبار واحد أي أن يكونا من نوع واحد اسمين أو صفتين ليسا متغايرين
ولكن
الترادف ليس مما يتفق العلماء على الإقرار به في لغتنا العربية الجميلة،
فبعض العلماء من المتقدمين والمحدثين أقر به واعتبر تلك الألفاظ مؤدية
لمعنى واحد كالأصمعي والفيروزأبادي صاحب القاموس المحيط. ومنهم من لا يرى
ذلك كأبي منصور الثعالبي صاحب كتاب (فقه اللغة وأسرار العربية) وكأبي هلال
العسكري الذي ترجم إنكار الترادف عمليا بتصنيف كتاب (الفروق في اللغة)
ليؤكد من خلاله أن هذ الألفاظ ليست مترادفة، فهذا الفريق يؤمن بهذه الفكرة
ويرى أن الأالفاظ التي يظن أنها مترادفة ليست كذلك حقيقة ، لكنها متقاربة،
وهي تحمل فروقا دقيقة بينها لم تكن تخفى على أصحاب اللغة الذين كانت اللغة
عندهم حسا وذوقا وفطرة
والفصل في ذلك كله ينبغي أن يكون للقرآن
الكريم ، فهو (كتاب العربية الأكبر) ، وهو الذي جاء في ذروة البلاغة
العليا ، وهو الحاكم على اللغة المخصص للاستعمال، لم ينكره العرب أو
يستنكروا شيئا منه، بل هو قد ارتقى بلغتهم وصار المهيمن عليها والحكم بينهم
ومن
التأمل في مواطن ورود بعض الكلمات التي يقال بترادفها في القرآن الكريم
نلحظ أن هناك فروقا بين تلك الكلمات ن وأنه لا يجوز أن تأخذ إحداها مكان
الأخرى وإلا لضعف المعنى
سنتعرف الآن على بعض الأمثلة القرآنية لنرى تفريق القرآن في الاستعمال بين الألفاظ المتقاربة المعنى
** الرؤيا والحلم: يستعمل القرآن الكريم كلمة الرؤيا لما يكون حقا وصدقا.
يتجلى
لنا ذلك بوضوح تام في رؤيا إبراهيم أنه يذبح ولده في سورة الصافات، وفي
رؤيا يوسف التي تحققت بسجود والديه وإخوته له، وفي رؤية رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم في سورتي الإسراء والفتح كقوله تعالى: "لَقَدْ صَدَقَ
اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ
الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ
وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ
دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً" ـ الفتح
وفي رؤيا الملك في سورة
يوسف إذ قال" إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ
عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا
الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيا تَعْبُرُونَ
. قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ
بِعَالِمِينَ"
ونلاحظ من الآية الأخيرة بوضوح تام أن الملأ ردوا
عليه بأنها (أحلام) ، وأنهم لا يعرفون تأويل الأحلام مما يقطع بأن الحلم
يقصد به الهواجس المختلطة والصور المشوشة التي لا تصدق وقد ظنوا أن رؤيا
الملك كذلك ، أما هو نفسه فقد عبر عنها بالرؤيا لأنها كانت واضحة جلية له،
ولأن الله تعالى يعلم صدق وقوعها فاختار لها هذا اللفظ
**الخشية والخوف: فالخشية هي ما كان عن يقين صادق بعظمة من نخشاه وإن كنا أقوياء في عالمنا
أما الخوف قد يكون عن تسلط بالقهر والإرهاب، وقد يكون ناجما عن ضعف الخائف وإن كان المخوف أمرا يسيرا
وعلى
هذا فالخشية أعلى مرتبة من الخوف لأنها ثمرة اليقين وصدق الانفعال الناجم
عن ذروة الإجلال، والخشية في القرآن تكون من الله، وقد تقترن بالأمور
العظيمة كالغيب والساعة واليوم الآخر، و(خشية الله منزلة رفيعا يختص
بإدراكها فئة معينة من الناس هم العلماء وأولو العقول والألباب من
المؤمنين والمتبعين للذكر ومن الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه)
**
المطر والغيث: ويفرق القرآن الكريم في الاستعمال أيضا بين المطر والغيث ،
فنرى المطر في مواطن العذاب ولانتقام كقوله تعالى في سورتي الشعراء
والنمل: "وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَسَاءَ مَطَرُ
الْمُنْذَرِينَ" ، وقوله عز وجل في الأعراف: " وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ
مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ"
أما
الغيث فيغلب وروده في مواطن الرحمة والخير المقترن بالبشرى والخصب
والنماء، قال سبحانه: " وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ
مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ" الشورى
**
ويمتد الفرق بين الألفاظ إلى استعمال الجمع والمفرد منها، فلكل موضع يناسب
المقام الذي يذكر فيه، فحين تُفرَد الرياح بالذكر فإنها تحمل العذاب كقوله
تعالى في سورة القمر: "إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً
فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ. تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ
نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ" ، وفي سورة الإسراء "أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ
فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفاً مِنَ الرِّيحِ
فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ
تَبِيعاً"
أما إن جاءت الرياح بالجمع فإنها تدل على الرحمة والبركة
، أو مبشرة بنعمة تأتي من بعد كالغيث والإخصاب ، قال عز وجل:
"وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً
فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِين" ، وقال أيضا:
"وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَته"
**
الريب والشك: دأب المفسرون على تعريف أحدهما بالآخر، والحقيقة أن بينهما
تقاربا في المعنى يسوغ ذلك ، ويسوغ له أن ألفاظ العربية ـ حسب المنكرين
للترادف ـ لا يمكن أن يحل أحدها مكان الآخر، فالريب والشك بينهما فروق في
المعنى، وأكثر ما يؤكد الفرق بينهما أن الريب جاء وصفا للشك في عدة مواقع
من القرآن الكريم، كقوله : " وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ
فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ
بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ " هود. وقوله تعالى في
سبأ: " وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ
بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ"
والشيء
لا يوصف بنفسه ولكن يوصف بوصف يقاربه معنى، وهذا يؤكد قول المنكرين
للترادف الباحثين عن الفروق. فالشك هو التداخل الداعي إلى الغموض وعدم
استبانة الأمور، والتردد. أما الريب فهو شك مع تهمة مصحوبة بقلق النفس
واضطرابها، والشك المريب هو التردد الموقع في القلق والاضطراب
من
العرض المتقدم تبين لنا رأي القائلين أن لا ترادف في القرآن الكريم،
ويتجلى أنهم ينتصرون للدقة القرآنية التي تشكل وجها مشرقا من وجوه الإعجاز
القرآني حيث الكلمة درة نادرة بل فريدة لا يحل غيرها محلها أبدا على سعة
قاموس العربية وثراء أعماقعا بلآلئ الألفاظ ودرر المفردات، هذا وقد يخرّج
مقرو الترادف ما تقدم بمسوغات أخرى، والله العالم
--------------------------------------------------------------------------------
المراجع:
(الإعجاز البياني للقرآن الكريم) لبنت الشاطئ، و(الإعجاز البلاغي للقرآن
الكريم) للدكتور وليد قصاب، و(الفروق اللغوية وأثرها في تفسير القرآن
الكريم) للدكتور محمد بن عبدالرحمن الشايع