بسم الله الرحمن الرحيم
الإحسان يتضمن نفعَ النفس بجميع القربات وأنواع الخيرات، وكفّها عن جميع
المحرمات، ونفع الخلق بجميع أنواع البر. والإحسان أفضل منازل السائرين،
وأعلى درجات العبادة، وأحسن أحوال عباد الله الصالحين، قال الله تعالى:
وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ
واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً [النساء:125]، وقد وعد الله تعالى
على الإحسان أعظم الثواب في الدارين، وأحاط المحسنين بعنايته، وحفظهم
بقدرته، وأجزل لهم الخيرات برحمته تعالى.
فمن ثواب الإحسان أن الله تعالى مع من أحسن العمل معيةً خاصة بنصره
وتأييده وحفظه ومعونته وتوفيقه وإصلاح شأنه كله، قال الله تعالى: إِنَّ
اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ
[النحل:128]، وقال تعالى: وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ
[العنكبوت:69]. ومن ثواب الإحسان محبة الله تعالى لعبده الذي أحسن القول
والعمل محبةً تليق بجلاله، وإذا أحب الله عبداً آتاه من كل خير وصرف عنه
كل شر، قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ
[البقرة:195]. ومن ثواب الإحسان أن الله تعالى يجعل للمحسنين من كل هم
فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل بلاء عافية، وينجيهم من مكر أعدائهم،
ويمنّ على المحسنين بأنواع المنن والخيرات، ويكتب لهم أحسن العاقبة، قال
الله تعالى عن يوسف عليه الصلاة والسلام وعن أخيه: قَدْ مَنَّ اللَّهُ
عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ
أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف:90]، وقال تعالى: إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ
مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً [الكهف:30]. ومن ثواب الله تعالى على الإحسان عِلمٌ
يقذفه الله في القلب يفرِّق به الإنسان بين الحلال والحرام، والحق
والباطل، ونورٌ يكشف الله به الظلمات، ويرفع به ظلمات الشبهات، وأمراض
الشهوات، قال الله تعالى: وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا
وَعِلْمًا وَكَذالِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ [يوسف:22]. ومن ثواب الإحسان
أن الله تعالى يُلحق آخر المحسنين بأولهم، ويُشركهم في فضله وثوابه،
ويحشرهم آخرهم مع أوّلهم، وينشر عليهم رحمته، ويتم عليهم نعمته، قال الله
تعالى: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ
وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ
عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ
خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذالِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:100]. ومن
ثواب الإحسان الثناء الحسن من رب العالمين، والثناء من العباد والدعاء
الدائم للمحسنين، والبركات المتكاثرة الحالة، قال تعالى: سَلَامٌ عَلَى
نُوحٍ فِى الْعَالَمِينَ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ
[الصافات:79، 80]، سَلَامٌ عَلَى إِبْراهِيمَ كَذَلِكَ نَجْزِى
الْمُحْسِنِينَ [الصافات:109، 110]، سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ
إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ [الصافات:120، 121]، إلى غير ذلك
من الآيات، وهذا وإن كان في الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فإنه ثواب لكل
من أحسن بحسب إحسانه وعبادته لله تبارك وتعالى. ومن ثواب الإحسان أن الله
تعالى يُعطي صاحبه كل خير، ويصرف عنه الشر والمكروه، قال تعالى:
لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِى هاذِهِ الْدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ
الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ [النحل:30].
وأما ثواب الإحسان في الآخرة فإنه أجلُّ الثواب وأعظم الجزاء، قال الله
تعالى: هَلْ جَزَاء الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ [الرحمن:60]، وقال
تعالى: لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ
وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ
فِيهَا خَالِدُونَ [يونس:26]، والحسنى هي الجنة التي فيها ما لا عين رأت
ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، والزيادة هي النظر إلى وجه الله الكريم
كما تواترت بذلك الأحاديث أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة في حديث
سلمان وحديث جرير بن عبد الله البجلي. والنظر إلى وجه الله الكريم مناسب
لجعله جزاءً للإحسان؛ لأن الإحسان أن يعبد المؤمن ربه كأنه يراه في
الدنيا، فكان النظر إلى وجه الله الكريم عياناً في الآخرة جزاءً على
الإحسان، كما أن الكفار لما حُجبت قلوبهم عن معرفة الله ومراقبته حُجبت
أبصارهم عن الله يوم القيامة، قال الله تعالى: كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن
رَّبّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ [المطففين:15].
فما الإحسان الذي هذا درجته عند الله؟ وما الإحسان الذي هذا ثوابه في
الدارين؟ قال رسول الله : ((الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن
تراه فإنه يراك)) رواه مسلم من حديث عمر رضي الله عنه(1)[1]، ومعنى هذا أن
العبد يعبد الله مستحضراً قربه من الله، ووقوفه بين يديه، كأنه يراه
ويشاهده، وذلك يقتضي خشية الله وتعظيمه والخوف منه ومحبته، ويوجب النصح في
العبادة، وبذل الجهد في إتقانها, وإتمامها وإكمالها، وروى الطبراني عن ابن
عمر رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله، حدثني بحديث موجز، فقال:
((صلِّ صلاة مودِّع، فإنك إن كنت لا تراه فإنه يراك))(2)[2]، ومعنى قوله
عليه الصلاة والسلام: ((فإن لم تكن تراه فإنه يراك)) أن من لم يقدر على أن
يعبد الله كأنه يشاهده فليعبد الله تعالى ويعلم أن الله مطَّلع عليه يراه
ولا يخفى عليه باطنه وظاهره ولا شيءٌ من أمره، وفي حديث حارثة رضي الله
عنه الذي يُروى متصلاً ومرسلاً أن النبي قال له: ((يا حارثة، كيف أصبحت؟))
قال: أصبحت مؤمناً حقاً، قال: ((انظر ما تقول، فإن لكل قول حقيقة))، قال:
يا رسول الله، عزفت نفسي عن الدنيا، فأسهرت ليلي، وأظمأت نهاري، وكأني
أنظر إلى عرش ربي بارزاً، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وكأني
أنظر إلى أهل النار كيف يتعاوَوْن فيها، قال: ((أبصرت فالزم، عبدٌ نوَّر
الله الإيمان في قلبه))(3)[3].
الإحسان إقامة الصلاة على أتم وجوهها، والتقرب إلى الله تعالى، ومناجاته
في ساعات الليل إذا الناس ينامون، وإحسانٌ إلى الخلق، قال الله تعالى:
إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ كَانُواْ قَلِيلاً مّن
الَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وَفِى
أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [الذاريات:16-19].
الإحسانُ جهاد النفس وجهاد الشيطان وجهاد المنافقين وجهاد الكفار، قال
الله تعالى: وَكَأَيّن مّن نَّبِىّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبّيُّونَ كَثِيرٌ
فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ
وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ وَمَا كَانَ
قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا
وَإِسْرَافَنَا فِى أَمْرِنَا وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى
الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ
ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:146-148].
الإحسان إنفاقٌ في الغنى والفقر، وكظمٌ للغيظ، وعفو عن الجاهلين، قال الله
تعالى: الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِى السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ
الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ
[آل عمران:134].
الإحسان نصحٌ لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، قال الله
تعالى: لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى
الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ
وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ
رَّحِيمٌ [التوبة:91].
الإحسان انقياد للحق، وحبٌ له، واستماع للوحي المنزل بقلوب سليمة وآذان
واعية وعيون دامعة، قال الله تعالى: وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى
الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ
مِنَ الْحَقّ يَقُولُونَ رَبَّنَا ءامَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ
الشَّاهِدِينَ وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءنَا مِنَ
الْحَقّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ
الصَّالِحِينَ فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُواْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن
تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذالِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ
[المائدة:83-85].
اللهم اجعلنا من المحسنين قولا وعملا ووفقنا لما تحب وترضى .