ها قد هدأ الليل و هجعت النفوس و سكنت حركة الأرض و استراح أديمها من وطأة البشر.
يظلون في ذهابهم و إيابهم يثقلون عليها بظلمهم بأحلامهم بأمانيهم بأهوائهم بأمالهم بألامهم
يطأون ترابها و لا يعلمون أنهم يطأون مواطن أجسادهم
يدوسون على صفحة وجهها و لا يدرون أنهم يدوسون وسائدهم
ها قد غاب قرص الشمس ليترك الأرواح تسبح في ملكوت شاسع و تتحرك في عوالم لا تحدها الحدود و لا يحكمها زمان و لا مكان
وفي سكون الليل تترك الهواجس قيودها و تفارق الوساوس أوكارها و تنطلق ككلاب مسعورة تنهش القلوب و تطارد طمأنينة الخواطر و تنفث الشك و تقتل اليقين
ها قد بدأت تتزاحم على مداخل قلبي المحطمة وفود الذكريات و رسل الأحزان و قوافل الأهات و نوازع الصبا و طرب الشباب و ظلام الوحدة و عصف الأشجان و قصف الأحلام المتهاوية
يعجب المرأ في هدأة الليل من قدرة هذا القلب المحجوز بين أضلاع كيف يمكنه أن يحتوي العالم
كيف يمكن لهذا العضو الهزيل المتقطع الأوصال أن يجمع كل قطرات الألم و كل زفرات النفس و كل متناقضات الدنيا
في سكون الليل تقطع تذكرة من أول محطات فشلك لتجوب حقول فرحك و صحاري نكباتك و تتسلق جبال الأماني التي غرك سرابها و تقطف من ثمرات جناتك التي لم تزرعها و توقفك على أطلال كنت تعشقها و تمر بك على وجوه ألفتها و تجري بك على خيول الحلم و تسابق بك الوقت و الساعات و عقاربالدهرالمتوقفة
ظلام الليل و سكون جوفه يحررك من أغلال نفسك و يعطيك شيئا لا تحسنه إلا في ظلمة الليل
يعطيك دموعا تغسل بها دفاترك و عبرات تمسح بها صفحاتك الممزقة
الليل يعينك على جمع قطرات الدموع من عيون جفت أو قست أو ربما نسيت أو ربما غطاها السواد فلم تعد ترى ما يستحق البكاء
هواجسك ،وساوسك ، أنفاسك تتيه في ظلمة الليل .تنطلق ،لا تخاف أن يدخلها ضوء النهار و أعين الناس في جوفك فتختنق.
أجمل في الليل أنه أعمى ،لا يراقب،لا يرى ،لا يتكلم بل يسمع فقط و لا يعلق و لا ينتقد و لا يعتقد و لا يتصور و لا يلوم و لا يعاتب فقط يشاركك البكاء في صمت و يصغي اليك في خشوع.
لا يسأل عن السبب و لا يعنيه أين و كيف و متى بل يعطيك صدره الواسع لتفترش سكونه و تزرع عليه دموعك.
الليل يشبه الأم: تعطيك صدرها لتبكي عليه و تغمرك بدفء يديها و تربت على ظهرك و لا تلومك و لا تقول لك أخطأت بل تقول ظلموا وليدي و عذبوا حبيبي
الليل لا يسألك عن آخر محطة بل ينتظرك كل ما أسدل ستاره على فصل جديد من روايتنا القاتمة
ينتظرك لأنه يعرف أنك ستعود لترتمي في أحضانه و تعانق نجومه و تبكي ...و تبكي...و تبكي ...
الليل رافق العباد ونسج رقائقهم و صاحب العشاق و حدا بهم نحو مصائرهم.
الليل طويل لمن ينتظر صباحه قصير على من وصله حبيبه قاس عى من خانه زمانه .
و لكن يبقى حنونا تلقي إليه بكل شيئ و يحفظ هو كل شيء.
و ينتظرك دائما ليسمع نقراتك و خلجات صدرك و نفثات قلبك وكله مصغ ،لا يلوم، لا يعاتب، لا ينتقد’ بل يسمع فقط.........