أرجوا أن لا يكون هناك احراج من هذا الموضوع ولكن لاهميته أحببت ان ادرجه هنا عن مقال د. عبد الوهاب المسيري
الفيديو كليب والجسد والعولمة
لعلكم سمعتم بالضجة التي أحدثتها أغنية مصورة لإحدى التافهات (ترفعت عن ذكر اسمها احتقارا لها، كما حذفت اسمها من المقال حتّى لا يكون ترويجا لفواحشها).
المشكلة ليست في فيديو كليب هذه التافهة، فكل الفيديو كليب دعارة، وابتذال للجسد (مثلما هي معظم أفلامنا السينمائية.. ولكن الفيديو كليب هو المختصر المركّز)!!!
ومن وجهة نظري، أن اختصاص إحدى هذه الدعارات بالاستنكار، يضفي نوعا من ((الشرعية)) على باقي الموبأة!
كما أنّني أرى أن مثل هذه الضجة تفتعل أساسا كلما كانت هناك قضايا أولى بوعينا واهتمامنا.. لينتهي الأمر كالعادة بتصريح عن منع عرض مثل هذه الكليبات (ودونها مليون كليب أكثر فحشا سيستمر عرضها!!)
ولكن.. لماذا لا نأخذ الأمور من زاوية أشمل وأعمق؟
تعالوا نقرأ معا مقال د. عبد الوهاب المسيري بجريدة الأهرام بتاريخ 8/4/2004 بعنوان "الفيديو كليب والجسد والعولمة":
الفيديو كليب....... :
مثل معظم أغاني الحب بين الرجل والمرأة كانت معظم أغنياتنا القديمة تتضمن إيحاءات وإيماءات ورموزا جنسية, أقول: إيحاءات وإيماءات ورموزا وحسب, لأن البعد الجنسي كان دائما مستوعبا في أبعاد أخري رومانسية, وفي الصور المستخدمة أو في خلفية الأغنية (باستثناء بعض الأغنيات مثل "ما قال لي وقلت له" لفريد الأطرش والتي منع النحاس باشا رحمه الله إذاعتها).
كل هذا الإبهام والتركيب والتنوع اختفي تقريبا تماما, فالفيديو كليب يؤكد جانبا واحدا من الأغاني وهو الجانب الجنسي.. فالراقصات لا يتركن أي مجال لخيال المشاهد, والصورة عادة أقوي من الكلمة.. فالكلمة (المجردة) توجد مسافة بينها وبين المتلقي, الأمر الذي يسمح له أن يتأمل في معناها ويتمعن في مغزاها.. أما الصورة ـ خاصة إذا كانت صورة حسناء نصف أو ربع عارية تقفز وتحرك كل ما يمكن تحريكه في جسدها بصورة غير موضوعية أو محايدة ـ فهي صورة حسية ومباشرة ولا تترك مجالا للعقل أن يتأمل, أو للجهاز العصبي أن يستريح قليلا, بل تقتحم الإنسان اقتحاما.
وبعد دراسة متأنية للفيديو كليب، استغرقت ساعات طويلة أمام التليفزيون أقلب من قناة راقصة إلي أخري أكثر عريا, اكتشفت أنه مما يساعد الفيديو كليب علي اقتحامنا ما أسميه الرقص الأفقي, فكلنا يعرف الرقص الرأسي وألفناه, فقد شاهدناه في الأفلام وفي الفنادق (الخمس نجوم) والكباريهات (التي بلا نجوم), ولكنه كان رقصا رأسيا دائما.. أما الرقص الأفقي فهو مختلف تماما، إذ تنام الراقصة/ المغنية علي الأرض وهي نصف أو ربع عارية، ثم تحرك ما يمكن تحريكه في جسدها بصورة غير موضوعية أو محايدة!
لأسباب لا تغيب عن بال أي مشاهد. هذا الرقص أكثر وقعا وتأثيرا, وهو يدهشنا تماما, مما يجعلنا نستسلم لإغواء الصورة, إذ كيف يمكن للمشاهد أن يتفكر أمام هذه الصور الملونة بالألوان الطبيعية وغير الطبيعية لهذه الحسناء المتحركة الأفقية؟!
والرقص البلدي يهدف للإثارة الجنسية بشكل واضح وصريح, ولكننا كنا لا نراه إلا في الأفلام وفي الأفراح والليالي الملاح, فهو جزء من عالم العوالم, أي أننا كنا نعرفه بوصفه جزءا من عالم مستقل عن عالمنا, قد نتمتع به وقد نرفضه, ولكن في كلتا الحالتين هو ليس جزءا من عالمنا.. وما تفعله الفيديو كليبات هو عكس ذلك تماما, وتحاول إجازته من خلال عشرات الراقصات (الروسيات والمصريات والهنديات... إلخ).. ولكن الأهم من كل هذا هو ما أسميه عملية تطبيع الرقص والإثارة, فالرقص يقدم في الفيديو كليب علي أنه جزء من صميم حياتنا العادية اليومية.. وبدل أن تذهب إلي الكباريهات جاءت هي إلينا!.. ولعل هذا ما حققه المخرج في أغنية (....) الأولي، حين ظهرت تسير في الشارع بشكل عادي جدا ببدلة الرقص, ثم ظهرت بملابس عادية, واستمرت في نفس الرقص البلدي.. وبذا يتم هدم الحواجز بين حياتنا اليومية والرقص البلدي, ويتم تطبيعه تماما.
ثم تم تعميق هذا الاتجاه في الأغنية التالية, فهي تظهر بملابس رياضية وبفستان سهرة وبملابس تشبه ملابس فتيات المدارس المراهقات ثم ملابس أرملة, ولكنها داخل كل هذه الملابس العادية تقوم بحركات أقل ما توصف به أنها غير عادية فهي حركات "كده"!!
ويتم تأكيد هذا الاتجاه نحو التطبيع في الجزء الأخير من الأغنية، فهو عبارة عن هوم فيديو, أي فيديو عادي منزلي, تظهر فيه المغنية مرتدية ملابس عادية, وتذهب إلي الكوافير.. عادي, بل ويظهر وجهها في إحدي اللقطات في غاية البراءة (وليس كده)، وتبتسم وبراءة الأطفال في عينيها (وإن لم يمنع الأمر أن تذكرنا بعالم الرقص في لقطة عابرة من الهوم فيديو)!!
إن عملية التطبيع هذه تحول راقصة الفيديو كليب إلي جزء من حياتنا اليومية العادية, وربما قدوة يُقتدي بها أو مثل أعلي يحتذي, ولا حول ولا قوة إلا بالله!
وهنا سيطرح الكثيرون عليّ هذا السؤال: لماذا تكتب عن هذه الأمور؟
والرد بسيط للغاية: هو أن مثل هذه الأمور تؤثر في الملايين, وهي تبين مدي تغير إدراكنا لأنفسنا ولما حولنا, ولوظيفة العواطف والجسد والجنس (وهي أمور من صميم وجودنا الإنساني).. أذكر أنني حينما عدت من الولايات المتحدة أوائل السبعينيات, كان أولادي يعرفون أقل من القليل عن الثقافة الشعبية المصرية بسبب نشأتهم في الولايات المتحدة. ثم فوجئت بابني الذي كان لا يزيد عمره علي أربع سنوات يغني أغنية "يا واد يا تقيل" فقررت أن أعرف الحكاية حتى أعرف ماذا يحدث له, وماذا يحدث للمجتمع المصري ككل!!
وذهبت إلي فيلم "خلي بالك من زوزو" وشاهدته ومعي قلمي وأوراقي, وكتبت دراسة نشرتها جريدة الأهرام في حينها بعنوان "تأملات في الواد التقيل والقلب الكاروهات"، حيث أشرت إلي المنظر الذي تقول فيها سعاد حسني: وما نيل المطالب بالتمني ولكن تأخذ الدنيا "كدهه"!!.. أي أنها قررت أن تكون فاعلا لا متلقيا سلبيا.. ثم شاهدت بعد سنتين مسلسلا تليفزيونيا يسمي "مغامرات المعلم عماشة"، فكتبت مقالا في الطليعة بعنوان "بين أحزان فاتن حمامة وأفراح المعلم عماشة".. وقد بينت ساعتها أن أفلام فاتن حمامة كانت تمييزا واضحا بين فاتن حمامة (العذراء) وميمي شكيب (الغانية).. ولكن المسلسل السابق ذكره كسر الحواجز بين الاثنين.. ففي أحد المناظر يجلس المعلم عماشة بين صحفية وراقصة ويعنبر لهما (أي يقبلهما حسب لغة المسلسل) الواحدة بعد الأخري!!
وهنا يمكن أن نتساءل: هل هناك متتالية حلقاتها مترابطة بدأت بالمعلم عماشة ثم وصلت الي روبي وأخواتها؟
وهل هذه المتتالية حتمية, أم أننا يمكننا أن نفعل شيئا ما لنوقفها عن التحقق إن إردنا ذلك؟
إن الثقافة الشعبية (والفيديو كليب من أهم أشكالها الآن) تؤثر فينا ولا يمكن أن تترك مثل هذه الأمور لمقاولي الفنانين دون دراسة أو تحليل.
.... والجسد.....:
وهنا قد يطرح علي قاريء ماكر سؤالا آخر, ألا تتمتع برؤية الفيديو كليبس؟ ولكن هل القضية هي مدي ما يقدمه الفيديو كليب من متعة؟
ألا يتضمن السؤال تحيزا واضحا للمتعة الفردية وكأنها الهدف الوحيد من الحياة, وكأن حياة الإنسان لا يوجد فيها أبعاد أخري, وكأن الفرد (ومقدار ما يحصل عليه من لذة من خلال المشاهدة) هو المرجعية الوحيدة والمطلقة؟
ولكن ماذا عن المجتمع والأسرة؟.. أليس من المفروض أن تكون الوحدة التحليلية هي المجتمع وتوجهه ومصلحته, والأسرة وتماسكها, وليس الفرد ولذته ومتعته؟
أوليس من حقنا كبشر (والإنسان كائن اجتماعي بالدرجة الأولي) أن نطرح أسئلة أخري تتناول جوانب أخري من حياة البشر؟
وقد لاحظت أن كل من تناول ظاهرة الفيديو كليب قد ركز علي ظاهرة العري وعلي "كده".. وأنا بطبيعة الحال أتفق معهم في الرأي بخصوص العري والإباحية, وبخصوص "كده"!.. ولكنني أري أن هذا يمثل جانبا واحدا من القضيّة, إذ يمكننا أن نسأل عن أثر الفيديو كليب علي نسيج المجتمع وعلي بناء الأسرة.. فالفيديو كليب لا يقدم مجرد أنثي تغني وترقص وتتعري وتتلوي، بل إنه يعبّر عن رؤية كاملة للحياة, نقطة انطلاقها ـ كما أسلفنا ـ هي الفرد الذي يبحث عن متعته مهما كان الثمن.
والمتعة في حالة الفيديو كليب متعة أساسا جسديّة، ولذا فهي متعة بسيطة أحادية تستبعد عالم الموسيقي والطرب وجمال الطبيعة وكل العلاقات الإنسانية الأخري.
والفيديو كليب بتركيزه علي هذا الجانب وحده يسهم في تصعيد السعار الجسديّ (في مجتمع فيه أزمة زواج!!).. والمعروف أن تصعيد السعار الجسدي مرتبط تماما بتصعيد الشهوات الاستهلاكية.. وهذا ما أدركته تماما صناعة الإعلانات التليفزيونية, فمعظم الإعلانات تلجأ إلي إثارة الشهوات لبيع السلع, فالسعار الجسديّ يفصل الفرد عن مجتمعه وأسرته, وعن أي منظومة قيمية اجتماعية, فيحاول تحقيق ذاته من خلال منظومة المتعة الفردية والمنفعة الشخصية, والتي تترجم نفسها عادة إلي استهلاك السلع والمزيد من السلع (في مجتمع تعيش غالبيته إما تحت خط الفقر أو فوقه ببضعة سنتيمترات وجنيهات، خاصة بعد ارتفاع سعر الدولار).. إن الفيديو كليب يختزل الأنثى (والإنسان ككل) إلي بعد واحد هو جسده, فيصبح الجسد هو المصدر الوحيد لهُويّته, وهي هُويّة ذات بعد واحد لا أبعاد لها ولا تنوع فيها (ومن هنا التكرار المميت في الفيديو كليب).
ولنقارن "كدهه" التي تقولها سعاد حسني بـ كده التي تقولها (...) بجسدها.. فكدهه التي قالتها سعاد حسني كانت عبارة عن إعلان استقلال الفتاة المصرية ورفضها أن تكون كائنا سلبيا في علاقتها بالرجل الذي تحبه, فزوزو لا تبكي ولا تتهزم حينما تقع في غرام البطل، وإنما تهز رأسها بطريقة غزل لعوب وتقول: "يا واد يا تقيل", ثم تقرر اصطياده, وتنط كما الزمبلك من كنبة لكرسي لترابيزة وتغني أغنية الأنثى الجديدة، فتصف صاحبنا بأنه بارد كجراح بريطاني هادئ وراسي وكأنه أمين شرطة أو دبلوماسي (وكلاهما صاحب سلطة ومكر ودهاء) وهو متحفظ للغاية يرد بالقطارة فكأنه الرجل الغامض (الشخصية الروائية الأفرنجية غير الحقيقية), ويسير كأنه تمثال رمسيس الثاني (الفرعون المغرم بالتماثيل الضخمة).. والإشارات هنا تدل كلها علي الذكورة والفحولة والضخامة والسيطرة, ولكن السياق والنبرة العامة للأغنية يدلان علي ان الغرض من التضخيم ليس التفخيم وإنما فضح ادعاءات الرجل المصري عن نفسه, ولذلك فكل صور الفخامة تسبقها عبارات مثل "ما تقولشي" و"بسلامته" و"اسم الله", وهي عبارات تشككنا في جدية هذه الصور، وتحوّل الذكر الضخم إلي طفل صغير تتلاعب به هذه الأنثى الحقيقية!
وحينما يقف أبو شوارب ويعلن أن "الكون مش قد مقامه" وأنه "أطول واحد في الحارة" نعرف أنّه ضحية مؤامرة تشهير ضخمة، وأن الفتاة الزمبلك قد نصبت له فخا, وأوهمته أنه الصياد المفترس "التقيل", وهو في واقع الأمر ليس سوي "صيدة سهلة" ولقمة سائغة.. إنها تعلم أنه لا داعي للمقاومة، فهو لن يغلبها رغم ضخامته الأسطورية ورغم ثقله التاريخي.
كل هذا يقف علي طرف النقيض من "كده" في أغنية (...), فهي إعلان أن الفتاة إن هي إلا جسد متحرك, و"اللي ما يشتري يتفرج"!!.. إنها في نهاية الأمر مفعول به, رغم جاذبيتها التي لا يمكن إنكارها!.. (لماذا لم تتحرك جمعيات تحرير المرأة لرفض امتهان الأنثي بهذه الطريقة؟!!!)
والإنسان الجسماني الاستهلاكي المنشغل بتحقيق متعته الشخصية يدور في دائرة ضيقة للغاية خارج أي منظومات قيمية اجتماعية أو أخلاقية.. ولذا نجد أن ولاءاته للمجتمع وللأسرة تتآكل بالتدريج, كما أن انتماء مثل هذا الشخص لوطنه ضعيف للغاية إن لم يكن منعدما.. والآن انظر لخلفية الفيديو كليب، ستجد أنها لا أرض لها ولا وطن.. فأحيانا الخلفية هندية, وأحيانا أخري أمريكية, وثالثة أوروبية, والبنات في معظم الأحيان شقراوات.. وحتى لو كن من بنات البلد، فما يرتدينه (أو لا يرتدينه) من ملابس لا علاقة له بما نعرفه في حياتنا.. كما أن أبطال الفيديو كليب عادة يركبون سيارات فارهة وأحيانا يظهرون في قصور, وكل هذا بطبيعة الحال يصعد الشهوة الاستهلاكية ويضعف الانتماء.
..... والعولمة:
بعد كل هذه المقدمات يمكننا أن نضع الفيديو كليب في سياق أوسع, وهو سياق العولمة، فجوهر العولمة هو عملية تنميط العالم بحيث يصبح العالم بأسره وحدات متشابهة, هي في جوهرها وحدات اقتصادية تم ترشيدها, أي إخضاعها لقوانين مادية عامة، مثل قوانين العرض والطلب.. والإنسان الذي يتحرك في هذه الوحدات هو إنسان اقتصادي جسماني لا يتسم بأي خصوصية, ليس له انتماء واضح, ذاكرته التاريخية قد تم محوها, وإلا لما أمكن فتح الحدود بحيث تتحرك السلع ورأس المال بلا حدود أو سدود أو قيود.. فالخصوصيات الثقافية والأخلاقية تعوق مثل هذا الانفتاح العالمي.. وفي غياب الانتماء والهوية والمنظومات القيميّة والمرجعيات الأخلاقية والدينية تتساوي الأمور, ويصبح من الصعب التمييز بين الجميل والقبيح, وبين الخير والشر, وبين العدل والظلم, وتسود النسبية المطلقة!
وأهم تعبير أيديولوجي عن العولمة، هو فلسفة "ما بعد الحداثة" التي يطلق عليها أيضا anti-foundationalism والتي يمكن ترجمتها حرفيا بعبارة "ضد الأساس"، والتي يمكن ترجمتها بتصرف "رفض المرجعيات", مما يعني السقوط في اللاعقلانية الكاملة.. وقد وصف رورتي ما بعد الحداثة أنها تعني أن الإنسان لن يقدس شيئا حتى ولا نفسه, فهي ليست معادية للدين والأخلاق وحسب, بل معادية للإنسان ذاته!
وقد يضيق القارئ بهذا الكلام الكبير وقد يتساءل: وماعلاقة كل هذا بالفيديو كليب؟.. هل يمكن ربط جسد راقصات الفيديو كليب بالنظام العالمي الجديد؟
والرد هو بالإيجاب, فكل الأمور مترابطة ليس بشكل مباشر وليس بشكل عضوي, ولكنها مترابطة.
وقد شبه الفيلسوف مابعد الحداثي (ليوتار) علاقة الإنسان بالواقع, بعلاقة الرجل الساذج (أو المشاهد الساذج) بالمرأة اللعوب: يظن أنه أمسك بها, ولكنها تفلت منه دائما!.. الأمر الذي يعني أن علاقة العقل بالواقع غير قائمة.
ويذهب كل من (فريدريك نيتشه) و(رولان بات) و(جاك دريدا) إلي أن تحطيم المقولات العقلية واللغوية هي عملية ذات طابع جنسي: ذوبان وسيولة.
بل إن بعض دعاة ما بعد الحداثة ورفض المرجعيات يرون أن جسد المرأة, هو مرجيعية ذاته, ولذا فهو تحدّ للعالم الثابت الذي له مركز ويمكن إدراكه عقليا!!
وفي كتابها الشهير "ضد التفسير" ـ الذي يؤرخ لظهور ما بعد الحداثة بتاريخ نشره ـ قالت (سوزان سونتاج) إن أكبر تحدّ للثوابت والعقل هو الجسد ((ولتلاحظ ما يحدث لعقلك وفهمك حينما تشاهد رقصة من النوع الأفقيّ!!)) وهذا الجسد لا علاقة له بأي خصوصية تاريخية أو ثقافية أو اجتماعية, ولذا فهو يقوّض الذاكرة الاجتماعية والتاريخية.
وهذا هو جوهر ما بعد الحداثة, أي أن كل إنسان يعيش داخل ما يسمونه قصته الصغرى, أي رؤيته للعالم.. أما القصة الكبرى الاجتماعية التاريخية التي تنضوي تحتها كل القصص الصغرى فلا وجود لها, فتتساقط القيم والمرجعيات وتظهر الراقصة الرأسية والأفقية, والشركات عابرة القارات التي تودّ أن يكون الإنسان حزمة نمطية من الرغبات الاقتصادية والجسمانية التي يمكن التنبؤ بسلوكها, حتى يمكن التحكم في صاحبها وتوظيفه داخل منظومة السوق (والكباريه)!!
وقد ظهرت فضيحة الفيديو كليبات بعد استشهاد الشيخ أحمد ياسين.. فبينما كانت الأمة بأسرها تعبر عن حزنها وعزمها وإصرارها, كان الرقص الرأسي والأفقي "شغال علي ودنه", وكأن جسد الراقصة هو البداية والنهاية.. بداية المتعة ونهاية التاريخ!!
إن القنوات الفضائية التي تذيع الفيديو كليبات تصل إلي منازلنا وأحلامنا, وتعيد صياغة رؤانا وصورتنا للآخرين ولأنفسنا, ودافعها الوحيد هو الربح المادي, وليس الاستنارة أو تعميق إدراك الناس لما حولهم, فهي مشاريع رأسمالية طفيلية تبحث عن الربح الذي أدي إلي التنافس بين المخرجين والمغنين والممولين، والذي لم تكن نتيجته الارتقاء بالمستوي الفني والجمالي, وإنما المزيد من الإسفاف والاغتراب والعري الذي سيتزايد حتما مع الأيام.. ومن يود أن يعرف إلي أين نحن ذاهبون، فعليه أن يري محطة MTV وبعض الفيديو كليبات الأمريكية، التي تحوّل الإنسان إلي ما أسمّيه البروتين الإنساني المحض!
عليه أن يعرف أن هناك مقهى في القاهرة يسمى xEvolution أي "التطور في اتجاه غير معلوم" يقدم مشروبا يسمي BlueLesbian أي "المساحقة الزرقاء".. وهي محاولة لتطبيع الشذوذ الجسديّ, لا تختلف في جوهرها عن محاولة تطبيع الرقص والإثارة الجسديّة.. وهذا أمر أقل ما يوصف به أنه مفزع.
والآن السؤال هو: هل من سبيل لوقف هذا التدهور المستمر؟
هنا قد يقول البعض إن في هذا تدخلا في حرية الفكر والفن.. والرد علي هذا أن الفيديو كليبات ليست فكرا وليست فنا ولا إبداعا, وإنما هي شكل من أشكال البورنو الذي يهدف إلي استغلال الإنسان وتحقيق الربح.
الفن العظيم يتناول موضوعات شتي من بينها الجنس, ولكن الجنس (مثل العنف) لا يقدم في حد ذاته وليس هو الهدف, وإنما هو عنصر ضمن عناصر إنسانية أخري.. فالفن العظيم (علي عكس البورنو) لا يهدف إلي الإثارة الجنسية وإنما إلي تعميق فهمنا للنفس البشرية.. وإن كان أصحاب الفيديو كليب يطرحونه باعتباره فكرا أو فنا فعليهم الالتزام بشرطين:
أولهما: ألا يحققوا أي ربح مادي منه..
وثانيهما: أن يثبتوا لنا اقتناعهم الكامل بهذا الفكر بأن يمارسوه في حياتهم الشخصية مع زوجاتهم وأمهاتهم وبناتهم وأبنائهم!!.. ولا أعتقد أن هناك من سيجد الشجاعة في نفسه أن يفعل ذلك، والله أعلم.
[size=24]د. عبد الوهاب المسيري[/size]