قصة خاتم سليمان عليه السلام
بقلم فضيلة الشيخ / علي حشيش
نواصل في هذا التحذير تقديم البحوث العلمية الحديثية للقارئ الكريم حتى يقف على حقيقة هذه القصة التي اشتهرت وانتشرت في معظم التفاسير المشهورة وتناقلها القصاص والوعاظ، وهي من الإسرائيليات الموضوعة التي تطعن في الأنبياء، أمّا ما تطرق من الإسرائيليات إلى التفسير والحديث، فقد وقف علماء المسلمين ومحدثوهم أمام هذا الخطر موقف حزم وعزم وتصدوا لهذه المفتريات، فبينوا زيفها وبطلانها، وإلى القارئ الكريم بيان قصة «خاتم سليمان - عليه السلام -».
أولاً: المتن: يُرْوَى عن ابن عباس قال: «كان الذي أصاب سليمان بن داود في سبب أناس من أهل امرأة يقال لها جرادة، وكانت من أكرم نسائه عليه، قال: فكان هوى سليمان أن يكون الحق لأهل الجرادة فيقضي لهم، فعوقب حين لم يكن هواه فيهم واحدًا. قال: وكان سليمان بن داود إذا أراد أن يدخل الخلاء، أو يأتي شيئًا من نسائه، أعطى الجرادة خاتمه، فلما أراد اللَّه أن يبتلي سليمان بالذي ابتلاه به أعطى الجرادة ذات يوم خاتمه، فجاء الشيطان في صورة سليمان فقال لها: هاتي خاتمي فأخذه فلبسه، فلما لبسه دانت له الشياطين والجن والإنس، قال: فجاءها سليمان فقال: هاتي خاتمي، فقالت كذبت، لست بسليمان، قال: فعرف سليمان أنه بلاء ابتلي به، قال: فانطلقت الشياطين فكتبت في تلك الأيام كتبًا فيها سحر وكفر، ثم دفنوها تحت كرسي سليمان، ثم أخرجوها فقرأها على الناس وقالوا: إنما كان سليمان يغلب الناس بهذه الكتب، قال: فبرئ الناس من سليمان وأكفروه، حتى بعث اللَّه محمدًا - صلى الله عليه وسلم - فأنزل جل ثناؤه: واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان يعني الذي كتب الشياطين من السحر والكفر: وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا [البقرة: 102]». اهـ.
قلت: ولقد وضع الوضاعون قصة أخرى باطلة ترتبط بهذه القصة تبين ما كتبته الشياطين.
فقد رُوِي عن شهر بن حوشب قال: «لما سُلِب سليمان ملكه، كانت الشياطين تكتب السحر في غيبة سليمان. فكتبت: «من أراد أن يأتي كذا وكذا، فليستقبل الشمس وليقل كذا وكذا، ومن أراد أن يفعل كذا وكذا، فليستدبر الشمس وليقل كذا وكذا». فكتبته وجعلت عنوانه: «هذا ما كتب آصف بن برخيا للملك سليمان بن داود من ذخائر كنوز العلم». ثم دفنته تحت كرسيه فلما مات سليمان، قام إبليس خطيبًا فقال: يا أيها الناس، إنَّ سليمان لم يكن
نبيًا، وإنما كان ساحرًا فالتمسوا سحره في متاعه وبيته، ثم دلَّهم على المكان الذي دفن فيه، فقالوا: والله لقد كان سليمان ساحرًا، هذا سحره، بهذا تعبَّدنا، وبهذا قهرنا، فقال المؤمنون: بل كان نبيًا مؤمنًا، فلما بعث اللَّه محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، جعل يذكر الأنبياء حتى ذكر داود وسليمان، فقالت اليهود: انظروا إلى محمد يخلط الحق بالباطل يذكر سليمان مع الأنبياء وإنما كان ساحرًا يركب الريح، فأنزل اللَّه - تعالى -: واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان [البقرة: 102]». اهـ.
ثانياً: «التخريج»:القصة أخرجها ابن جرير في «تفسيره» (1/657) الخبر (1663) عن ابن عباس، والقصة الأخرى المرتبطة أخرجها أيضًا ابن جرير في «تفسيره» (1/659) الخبر (1669) عن شهر بن حوشب وأورد القصة الثعلبي في «قصص الأنبياء» (ص354) وفيها بيان لأحد نساء سليمان وهي الجرادة بنت الملك صيدون، تلك القصة التي وضعها الوضاعون وجعلوا هذه المرأة سببًا في سلب ملك داود، حيث قال الثعلبي: روى محمد بن إسحاق عن بعض العلماء أن سليمان أخبر أن في جزيرة من جزائر البحر رجلاً يقال له: صيدون ملك عظيم الشأن لم يكن للناس إليه سبيل لمكانه في البحر، وكان اللَّه قد آتى سليمان في ملكه سلطانًا لا يمتنع عليه شيء في بر ولا بحر، فخرج إلى تلك المدينة فحملته الريح على ظهرها حتى نزل عليها بجنوده من الجن والإنس فقتل ملكها وسبى ما فيها، فأصاب فيما أصاب بنتًا لذلك الملك يقال لها جرادة لم ير مثلها حسنًا وجمالاً فاصطفاها لنفسه ودعاها للإسلام فأسلمت على يديه في الظاهر خيفة منه وقلة ثقة، فأحبها حبًا شديدًا لم يحبه أحدًا من نسائه وكانت منزلتها عنده منزلة عظيمة، وكانت على منزلتها عنده لا يذهب حزنها ولا يرقأ دمعها، فشق ذلك على سليمان فقال لها: ويحك، ما هذا الحزن الذي لا يذهب والدمع الذي لا يرقأ، فقالت: إني أذكر أبي وأذكر ملكه وسلطانه وما كان فيه يحزنني ذلك، فقال لها سليمان: قد أبدلك اللَّه ملكًا هو أعظم من سلطانه، قالت: إن ذلك حق ولكني إذا ذكرته أصابني ما ترى من الحزن، فلو أنك أمرت الشياطين يصورون لي صورته في داري التي أنا فيها أراه بكرة وعشية لرجوت أن يذهب ذلك حزني ويسليني عن بعض ما أجد في نفسي، فأمر سليمان الشياطين أن يمثلوا لها صورة أبيها في دارها حتى لا تنكر منه شيئًا فمثلوه لها حتى نظرت إلى أبيها بعينه إلا أنه لا روح فيه، فعمدت إليه حين صنعوه فأزرته وقمصته وعممته وردته بمثل ثيابه التي كان يلبسها، ثم أنها كانت إذا خرج سليمان من دارها تغدو، إليه في ولائدها فتسجد له ويسجدن له معها كما كانت تصنع معه في ملكه».
ثالثًا: التحقيق: أ- القصة واهية ومنكرة ولا أصل لها عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، بل هي من الأخبار المقطوعة والموقوفة المنكرة، وهي من الأخبار التي أوردها ابن جرير - رحمه الله -، وقد أسندها، ومن التخريج يتبين أن جميع طرق القصة لم يوجد بها «الخبر الصحيح المسند».
ب- والأخبار المقطوعة والموقوفة التي جاءت بها القصة واهية منكرة، وإلى القارئ الكريم تحقيقها:
1- قال ابن جرير: حدثني أبو السائب السوائي، قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: «كان الذي أصاب سليمان بن داود في سبب أناس من أهل امرأة يقال لها جرادة...» القصة.
قلت: وهذا الخبر لم يصرح فيه الأعمش بالسماع ولكنه عنعن: يعني (قال: عن المنهال).
قال ابن المديني: الأعمش كان كثير الوهم في أحاديث هؤلاء الضعفاء.
قال الجوزجاني: قال وهب بن زَمْعة المروزي: سمعت ابن المبارك يقول: إنما أفسد حديث أهل الكوفة أبو إسحاق،
والأعمش. قال الذهبي: «من صغار التابعين؛ ما نقموا عليه إلا التدليس».
قال علي بن سعيد: سمعت أحمد بن حنبل يقول: منصور أثبت أهل الكوفة، ففي حديث الأعمش اضطراب شديد.
قال جرير بن عبد الحميد: سمعت مغيرة يقول: أهلك أهل الكوفة أبو إسحاق وأعيشكم هذا.
قلت: وهو مردود خاصة بتدليس الأعمش عن المنهال بن عمرو الكوفي، وتفرده عن المنهال عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، وهذا مما أنكره الذهبي في «الميزان» (4/192، 8806).
2- تخريج الإمام النسائي للقصة: ولقد أخرج هذه القصة الإمام النسائي في «السنن الكبرى» (6/287، 288)، (ح10993) قال: أخبرنا محمد بن العلاء حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن المنهال، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: فذكر القصة في تسعة وعشرين سطرًا.
قلت: تبين أن الإمام النسائي أخرج القصة بنفس السند الذي جاءت به القصة عند ابن جرير والقصة موقوفة وبها
التدليس إلا أنه بمقارنة المتن عند ابن جرير بالمتن عند النسائي وجد أن ابن جرير اختصر المتن اختصارًا شديدًا أدى إلى السقط الكثير خاصة فيما يبين نكارة المتن مثل:
أ- في رواية القصة عند ابن جرير:
ب- في رواية القصة عند النسائي:
«جاءها سليمان قال: هاتي خاتمي، قالت: اخرُج، لست بسليمان، قال سليمان: إن ذاك من أمر اللَّه، إنه بلاء ابتلي به، فخرج فجعل إذا قال: أنا سليمان رجموه حتى يدموا عقبه، فخرج يحمل على شاطئ البحر، ومكث هذا الشيطان فيهم مقيمًا ينكح نساءه ويقضي بينهم، فلما أراد اللَّه - عز وجل - أن يرد على سليمان ملكه انطلقت
الشياطين وكتبوا كتبًا فيها سحر وفيها كفر فدفنوها تحت كرسي سليمان».
جـ- قلت: انظر إلى السقط في رواية ابن جرير بين جملة: «إنه بلاء ابتلي به» وجملة: «فانطلقت الشياطين» تجد العجب.
1- الشيطان تمثل بنبي اللَّه سليمان وأخذ خاتمه من امرأته ودانت له الشياطين والإنس والجن.
2- سليمان النبي إذا قال لهم أنا سليمان كذبوه ورجموه حتى يدموا عقبه.
3- الشيطان يحكم، وسليمان النبي على شاطئ البحر يحمل الأسماك بالأجر.
4- الشيطان تمثل بسليمان حتى وصل به الأمر إلى أنه أصبح مقيمًا في ملك سليمان يحكم بين الناس وينكح نساء سليمان.
5- وإن تعجب فعجب كيف يكون هذا مصير نبي ابن نبي؟ والأعجب كيف يذكر في كتب التفاسير والسنن؟!
3- قصة ما كتبته الشياطين: أما القصة الأخرى الباطلة التي ترتبط بهذه القصة تمام الارتباط كما بيَّنا آنفًا فهي أوهى من السابقة، حيث قال ابن جرير: حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسن، قال: حدثني حجاج، عن أبي بكر، عن شهر بن حوشب قال: «لما سلب سليمان ملكه، كانت الشياطين تكتب السحر». القصة.
أ- متن هذه القصة مقطوع وليس بمرفوع حيث قال الحافظ في «التقريب» (1/355): «شَهْر بن حوشب الأشعري الشامي من الثالثة».
قلت: والثالثة هي الطبقة الوسطى من التابعين كما هو مبين في مقدمة التقريب.
«وما أضيف للنبي المرفوع وما لتابع هو المقطوع»
فما نقل في هذه القصة ليس هو عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ب- شهر بن حوشب: أورده الإمام الذهبي في «الميزان» (2/283/3756)، وحتى لا يقول قائل: إنه من رجال مسلم، فقد بيَّن الذهبي أنه لم يرو له مسلم احتجاجًا، ولكن روى له مقرونًا ونقل عن ابن عون قال: إن شهرًا تركوه.
قال ابن عدي في «الكامل» (4/36) (18/898): «عامة ما يرويه شهر وغيره من الحديث فيه من الإنكار ما فيه، وشهر هذا ليس بالقوي في الحديث وهو ممن لا يحتج بحديثه ولا يتدين به». اهـ.
قال ابن حبان في «المجروحين» (1/357): «شهر بن حوشب: كان ممن يروي عن الثقات المعضلات وعن الأثبات المقلوبات».
جـ- وعلة أخرى أبو بكر: وهو أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي سبرة، أورده الحافظ ابن حجر في «التهذيب» (12/31)، ونقل عن عبد الله بن أحمد عن أبيه قال: أبو بكر بن عبد الله بن محمد بن أبي سبرة: «ليس بشيء كان يضع الحديث ويكذب».
قال ابن حبان في «المجروحين» (3/147): «أبو بكر بن عبد الله بن محمد بن أبي سبرة «كان ممن يروي الموضوعات عن الأثبات، لا يحل كتابة حديثه ولا الاحتجاج به بحال كان أحمد بن حنبل يكذبه».
قال ابن عدي في «الكامل» (7/295) (12/200): «ولأبي بكر بن أبي سبرة غير ما ذكرت من الحديث وعامة ما يرويه غير محفوظ وهو في جملة من يضع الحديث». اهـ. فالقصة واهية بالمتروكين والكذابين.
4- قصة عبادة التماثيل في دار سليمان النبي: وهذه هي القصة الثالثة الأخرى الباطلة مرتبطة بالقصتين السابقتين تمام الارتباط، كما بينا آنفًا، وهي أوهى من السابقتين حيث قال الثعلبي: «روى محمد بن إسحاق عن بعض العلماء أن سليمان... » القصة.
قلت: سند هذه القصة مظلم باطل بالتدليس والجهالة.
أ- تدليس محمد بن إسحاق:
فقد أورده الحافظ ابن حجر في «طبقات المدلسين» في الطبقة الرابعة رقم (91) وقال: محمد بن إسحاق بن يسار المطلبي المدني صاحب المغازي مشهور بالتدليس عن الضعفاء والمجهولين وعن شر منهم وصفه بالتدليس ابن حبان. اهـ.
قلت: حكم رواية أصحاب هذه الطبقة:
قال ابن حجر في مقدمة «كتاب المدلسين»: الرابعة: من اتفق على أنه لا يحتج بشيء من حديثهم إلا بما صرحوا فيه بالسماع لكثرة تدليسهم على الضعفاء والمجاهيل». اهـ.
قلت: وابن إسحاق عنعن ولم يصرح بالسماع.
ب- جهالة ابن إسحاق يتبين ذلك من السند: «روى محمد بن إسحاق عن بعض العلماء أن سليمان... » وهذا النوع من أنواع المجهول يسمى «المبهم» ومن أبهم اسمه جهلت عينه وجهلت عدالته، فمن باب أولى لا تقبل روايته وفوق التدليس والجهالة فالخبر مقطوع.
......يتبع