أول موضوع حبيت أن أطرح في هذا القسم الفلسفي هو" العلاقة التي تربط الفلسفة بالحياة" .
إن الفلسفة شأنها شأن أشكال الوعي البشري، فهي لصيقة بقضايا المجتمع وهموم العصر الذي أفرزها ؛ وقد قال ماركس Marx في هذا الصدد : "ليس وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم، بل إن وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم".
إن الفلسفة – إذن – ليست فكرا مستلبا أو متعاليا عن الواقع الاجتماعي وإنما هي خلاصة عصرها، وتاريخ الفلسفة حافل بالنماذج التي تؤكد ذلك: إن تفكير أفلاطون في "مدينة مثالية" (كتاب الجمهورية) لم يكن إلا محاولة منه لإصلاح المجتمع اليوناني الذي أفسده السفسطائيون. وما تفكير الفارابي في "مدينة فاضلة" إلا محاولة لإرجاع الدولة الإسلامية إلى أمجادها البائدة.
لكن الفلسفة تختلف عن السوسيولوجيا والأنثروبولوجيا. لأنها ليست دراسة علمية موضوعية لقضايا مجتمع معين ؛ وليست مجرد تشخيص لبعض الأمراض الاجتماعية. إن الطابع العام والشمولي للفلسفة يأبى ذلك. إنها لا تدرس ما هو كائن إلا في إطار ما ينبغي أن يكون. إن طموح الفيلسوف إلى تحقيق الكونية يجعله يترفع عن أن يصبح مجرد مصلح اجتماعي، أو أن يكون على الأكثر عالما اجتماعيا فرضته ظرفية تاريخية. فما هو السبب – إذن – في اهتمام الفيلسوف بقضايا الحياة والمجتمع؟
يكمن جواب ذلك في عاملين متداخلين، أولهما أن الفلسفة بحث عن الحقيقة ؛ والأجوبة التي تقترحها، تبين أنها فحص مثابر وراء الإسهام المباشر في حل المشاكل الإنسانية مهما كانت فرص النجاح ضعيفة. وهنا يبزغ العامل الثاني، والذي يتجلى في الأهمية القصوى التي توليها الفلسفة للإنسان وتعتبره مركز اهتماماتها، حيث لا تهتم بالقضايا إلا بقدر ما ترتبط بالإنسان، لذا قال فيورباخ L. Feurbach إن كل فلسفة تؤسس خارج الإنسان وبمعزل عنه لا يمكن اعتبارها فلسفة..
انطلاقا مما تقدم نطرح السؤال التالي : هل الفلسفة إلزام أم إلتزام؟ يقول ديكارت : "لأن يحيى المرء بدون تفلسف هو حقا كمن يظل مغمضا عينيه لا يحاول أن يفتحهما: والتلذذ برؤية كل ما سيكشفه البصر لا يمكن أن يقارن بالرضى الذي ينال من معرفة الأشياء التي تنكشف لنا بالفلسفة". يتأكد إذن – من خلال هذا القول- أن الفلسفة ليست ترفا فكريا وإنما هي ضرورة. ولعل ضرورتها تتجلى في الانسياب الفكري الذي تطلبه؛ وفي رفضها كل حدود للعقل. إن الطابع الإشكالي والنقدي للفلسفة يحتمان عليها إعادة النظر في كل شيء، وفي كل قضايا الحياة، وبالتالي إخضاعها للمساءلة.
والفلسفة، كذلك، التزام لأنها اندماج وانصهار في كل ما من شأنه أن يساهم في سيرورة الحياة، وبالتالي الانطلاق بها إلى فضاء أرحب وأوسع. ومن هذا المنطلق نفهم لماذا تتجند الفلسفة ضد جميع ضروب العنف محاولة منها نشر ثقافة التسامح والانفتاح على الغير. لأن العنف يعتبر من المسارات الخسيسة التي بإمكانها أن تجهض حركية الحياة، وتقتضي على طموح الإنسان في بلوغ غايات نبيلة. فالفلسفة تحارب العنف لأنه ليس مجرد سلوك فردي ينحصر في أخذ ثأر أو إنزال عقوبة أو قصاص؛ ولكنها تحاربه لأن العنف – كما يقول إيف ميشو Y. Michaud – يوجد "عندما يحطم واحد أو عدد من الفاعلين شخصا آخر، مباشرة، أو بصفة غير مباشرة، دفعة واحدة أو بالتدريج، أو يمسهم في كيانهم الجسمي أو النفسي، في ممتلكاتهم، أو في انتماءاتهم الثقافية أو الرمزية المختلفة. ليس العنف فقط مسألة جروح أو قتل، إذ يمكن أن يكون التحطيم سيكولوجيا، بواسطة التعذيب أو النفي، أو الإيذاء في الممتلكات، أو يلحق لغة الجماعة، أو ثقافتها أو معتقداتها، أو يعني الحرمان من العمل ..إلخ".
بناء على هذا، نستطيع القول إن الفيلسوف ضد العنف لأنه، كما يعتقد إريك فايل E. Weil، سلوك لا عقلي يهدف إلى النيل من كرامة الإنسان وبالتالي النيل من إنسانيته. إن الفلسفة ضد العنف لأنه يقوم على كل الأفكار السلبية التي تحاربها كالتسلط، والظلم، والبؤس والشقاء والحرمان ..إلخ.
وعلى الفلسفة أن تتنبه للعنف لأن خطورته، اليوم، تكمن في أنه سلوك ممنهج يهدف إلى إخفاء أبعاده وخلفياته وبالتالي إخفاء أساليبه وآلياته، أو كما يقول إيف ميشو : "… إن ما يميز العنف المعاصر عن أشكال العنف التي عرفها التاريخ، هو التدخل المزدوج للتكنولوجيا والعقلنة في إنتاجه". ولعل ذلك ما يجعلنا نقول إن العنف أصبح اليوم سلوكا لا عقليا أنتجه العقل.