أن الأنباط عدوا من عرب شمال الجزيرة العربية ، ولعلهم اقرب إلى عرب الحجاز ، فأغلب الأسماء التي كانت شائعة عندهم تشبه الأسماء المستعملة عند ظهور الإسلام مثل (( حارثه ،
ومليكه ، وجذيمة ، وكليب ، ووائل ، ومغيرة ، وقصي ، وعدي ، وعائذ ، وعمر ، وعمرية ، ويعمر ،وكعب ومعن وسعد ومسعود ووهب الله وتيم الله وعلي ))
أما تركيب لغتهم يشبه تركيب النحو العربي المعروف لدينا (1) ، أما كتاباتهم فكانوا يستعملون في ألكتابه المكاتبات الرسمية والمعاملات التجارية ، اللغة الاراميه التي كانت سائدة آنذاك في
كل بلاد الشرق الأوسط ، فكأن لهم لغة للمخاطبة ولغة أخرى للكتابة .
ولقد أستعمل الأنباط الخط الآرامي المشتق من الفينيقي ، ولكنهم حوروه وصقلوه تدريجيا ، حتى أصبح خطا قائما بذاته ومنه انحدار الخط العربي الكوفي (2)
قرية السدرة مهد الخط العربي
روى البلاذري (3) وهو من أقدم من حفظ لنا روايات العرب عن تاريخ كتاباتهم ، وحفظ لنا أيضا النظريات المتواترة في كتابه (4) ، إذ يستند على محمد بن السائب الكلبي والشرقي بن
القطا مي فيقول :- (( اجتمع ثلاثة نفر من طيء وهم ( مرامر بن مره ) و(اسلم بن سدرة ) و ( عامر بن جدره ) فوضعوا الخط ، وقاسوا هجاء العربية على هجاء السريانية ، فتعلمه منهم
قوم من أهل الانبار ثم تعلمه أهل الحيرة من أهل الانبار ، فتعلمه (( بشر )) وهو أخ ((أكيدر)) بن عبدا لملك صاحب دومة الجندل (الاخيضر حاليا ) ، ثم أتى مكة في بعض شؤونه
فتعلم منه رجلان هناك ، ثم رحل إلى الطائف شمال شرقي مكة في بعض شؤونه فتعلم منه رجل أخر هناك ،وفي ديار مضر وأناس آخرون في الشام ، وتعلم ذلك الخط من أولئك الطائيين
الثلاثة رجل من طابخة كلب وعلم رجلا من أهل وادي القرى ، فأتى للوادي في يثرب فأقام بها قوما من أهلها .
وقد ذكرنا إن بشر بن عبد الملك بن عبد جن الكندي هو معلم المعلمين في دومة الجندل (قصر الاخيضر حاليا ) للخط العربي (5) ومن المعلوم إن قرية بقة هي أحدى قرى السدرة التي
موقعها الآن بجوار المشهد الحسيني ولا تزال أثارها باقية وكانت تسكن فيها طيء حتى شمالها بجوار بني أسد وتميم قبل الإسلام ودخلت كربلاء بعد معركة دير الجماجم بين قبيلة أياد والفرس
الساسانيون قبل ظهور الإسلام بقرن واحد تقريبا .
وقال البلاذري (6)
(( فلما أتى بشر بن عبد الملك الكندي مكة في بعض شأنه ، فرآه سفيان بن أمية بن عبد شمس ،وأبو قيس بن عبد مناف بن زهره بن كلاب ، رآه يكتب ، فسأله أن يعلمها حروف الهجاء ، ثم
أراهما الخط فكتباه ، وقال ابن النديم في كتاب الفهرست ، بل هو حرب بن أميه ( بدل سفيان ) فكل يقول أن بشرا تزوج من الصهباء بنت حرب ،وروى عن ابن النديم أنه كان في خزانة
المأمون كتاب بخط عبد المطلب (ت 578م ) قد كتب في جلد ادم ، وكان الخط يشبه خط النساء ))
ويتضح لنا من هذه الروايات أن الخط النبطي قد أشتق من الخط الآرامي , وأن الخط العربي قد تطور عن الخط النبطي قبل الإسلام بقرن واحد فقط على يد علماء طي مرامر بن مرة ، واسلم
بن سدرة ، و عامر بن جدرة ، وذلك في أطراف مدينة كربلاء في قرية بقة المجاورة إلى قرية السد ره وضمن حدودها وكانت تسكنها طي، وكذلك بشمالها بما فيها قرية النواويس وحتى
أطراف بحيرة الرزازة ، وكانت تجاورها تميم على الجهة اليمنى منها وشمالها ( منطقة الحر حاليا ) ، وقد تهدمت قرى طيء نتيجة الحروب الداخلية في اثناء الحكم الساساني للعراق ، ولم
يبق ألا أنقاضها ، وهي التي دفن فيها الحسين بن علي ( عليهما السلام ) ، وشهداء معركة ألطف على أنقاضها عام 61هـ .
ثم انتقل الخط العربي من كربلاء إلى الأنبار وضاحية سوراء (قصر الاخيضر وقصر مقاتل والقرى المحيطة بهذه القصور ثم إلى الحيرة ) .
وأثناء الرحلات الشتوية والصيفية إلى الجزيرة ثم نقله إلى الحجاز وبلاد العرب حتى ظهور الإسلام ، وكان بشر بن عبد الملك الكندي أخ اكيدر صاحب قصر الأخيضر (( دومة الجندل ))
معلم المعلمين للخط العربي الجديد وقد لعب دورا في تعليم أهل الحجاز هذا الخط .
وبعد الإسلام وبناء الكوفة توجه العلماء والكتاب والقراء إلى الكوفة وساهموا بإعادة دراسة الخط العربي .
وكان أهل مدينة النهرين ومدينة سورا وضاحية الاخيضر وأهل الحيرة هم الأوائل في وضع هذا الخط الذي تحول فيما بعد إلى خط كوفي وكان الأنباط من طي وضاحية كربلاء والحيرة هم
قادة هذا التحول كما ساهم النصارى لأنهم مجاورين للكوفة.
وبعد دخول الأقوام الاعجميه في الإسلام وانتشار اللغة العربية خاف العرب على تشويه هذه اللغة بإدخال مفردات أجنبية ضمن اللغة العربية لهذا نرى تصدي مدرسة الكوفة والبصرة لهذه
الظاهرة الجديدة.
خشي العرب على لغتهم فاخذوا يجمعونها ويبذلون الجهد العظيم في تدوينها ، وكان الأعراب الفصحاء يفدون إلى المدن في العراق أو ينزلون فيها ويأخذ العلماء عنهم اللغة ، ومن هؤلاء
الأعراب أبو البيداء ألرياحي وأبو زيد ألكلابي وابوسرار الغنوي وأبو مهدية (7) .
وكان العلماء يرحلون إلى البادية ويتحملون المشاق في سبيل الاتصال بالأعراب الذين لم تفسد لغتهم وقد روي أن ألكسائي أنفذ خمسة عشر قنينة حبر في الكتابة سوى ماحفظ (8) وكان
اهتمامهم عظيم بقبائل قيس وتميم وأسد وهذيل وبعض بطون كنانة وبعض الطائيين ، لأنهم أفصح العرب ولم يأخذوا عن حضري ولا عن سكان البراري ممن كان يسكن أطراف بلادهم
المجاورة لسائر الأمم التي حولهم (9)، وكان أبو زيد الأنصاري والأصمعي من أشهر الذين عنوا بجمع اللغة ، وقد قيل عن الأول انه أحفظ الناس للغة (10) وقيل عن الثاني انه كان يجيب
في ثلث اللغة (11) ،لأنه كان يضيق ولا يجوز ألا اصح اللغات ويلح في دفع ما سواه (12) ،خشية أن ينقل ما ليس صحيحا ، ويدخل في كلام العرب مالم يقولوه ، وقد اخذ هذان العالمان
عن أبي عمرو بن العلاء اللغة والنحو والشعر ،ورويا عنه القراءة ثم أخذ عن عيسى بن عمرو وأبي الخطاب الاخفش ويونس بن حبيب وعن جماعة من ثقات الاعرا ب وعلمائهم (13)
وفعل مثلهما كثير من العلماء ، وبذلك حفظوا اللغة من الضياع ، وكانوا في أول الأمر يدونون المفردات التي يسمعونها ، ثم أخذوا يضعون الكتب والرسائل مثل كتب الغربيين ولغات القران ،
وكتب النوادر وكتب الأفراد والتثنية والجمع ،وكتب المصادر والصيغ الخاصة من الأفعال والأفعال ألعامه وأمثلة الأسماء والأبنية عامة وكتب الصفات (14) .
وجاءت المرحلة الثانية فوضع الخليل بن احمد الفراهيدي (ت 175هـ ) أول معجم في اللغة العربية وهو ((العين )) ثم توالت المعاجم .
أن هذا الحرص على جمع اللغة يدل على عناية العرب بلغتهم وخوفهم من إن يصيبها اللحن والفساد وتبع ذلك جمع ا لتراث العربي ، فأتجه العلماء إلى الشعر ويجمعونه ويروونه ، ويدونونه
في كتب أطلق عليها فيما بعد اسم ((الدواوين )) الشعرية وبدأ بعضهم يصنع المجموعات الشعرية كما فعل الأصمعي في ((الأصمعيات)) والمفضل الضبي في ((المفضليات )) وأبو زيد
القرشي في ((جمهرة أشعار العرب )) ، وأخذ بعضهم يصنف الشعراء في طبقات كما فعل ابن سلام الجمحي في ((طبقات فحول الشعراء )) أو يرتبهم حسب الزمان كما فعل أبن قتيبة في
(( الشعر والشعراء )) ولم يكن القرن الثاني الهجري يودع أعوامه الاخيره حتى كانت اللغة والشعر والأخبار والأيام المدونة محفوظة وكانت الكتب في اللغة والنحو والشعر تأخذ طريقها إلى
عالم التأليف .
..............................................................................
المراجع :-
1- الدكتور احمد صالح العلي - محاضرات في تاريخ العرب ج1 ص42
2- نفس المصدر ونفس الصفحة
3- البلاذري المتوفى عام 279هـ
4- البلاذري – فتوح البلدان ص471
5- ناجي الدين المصرف – موسوعة الخط العربي ج3 ص71
6- البلاذري – فتوح البلدان ص473
7- العراق في مواجهة التحديات- المبحث الثاني ج2 ص 381 بقلم الدكتور احمد مطلوب
8- أنباه الرواة ج2 –ص258 – بقلم جمال الدين أبو الحسن علي
9- المزهر –ج1 ص1 / ص211-212 وأنظر جلال الدين السيوطي / تحقيق احمد جاد المولى ومحمد أبو الفضل إبراهيم وعلي البيجاوي –القاهرة
10- الخوارزمي –المصدر السابق والصفحة ذاتها
11- مراتب النحويين –ص41 لابو الطيب عبد الواحد بن علي اللغوي 1955م
12- تاريخ آداب العرب – ح1 ص406 لمصطفى الرافعي بيروت 1974م
13- مراتب النحويين – ص 40
14- المعجم العربي – نشأته وتطوره ج1 الدكتور حسين نصار-ط2- القاهرة -1968م .