الكرات الزجاجية.
يطلق السومريون على اللؤلؤ عيون السمك، وكانوا يظنون أن الأسماك عندما تنفُق تسقط عيونها على محار فيحتفظ بها. ولقد شاهدت في الخليج العربي نوعاً من الأسماك لا يبقى من أعينها بعد الطهي إلا كرات صغيرة بيضاء أشبه باللؤلو.
ويطلق العراقيون كلمة دُعبُل على عيون السمك.
ثم أخذوا يطلقون على الكرات الزجاجية التي يلهو بها الأطفال في لعبهم كلمة دعبل.
فهل هناك تفسير لهذا التلاقح الحضاري بين هذه الشعوب؟ هناك الكثير من الكلمات السومرية ككور تنور. وشه "شعير" وأدبا مدرسة. ما تزال مبثوثة في التعبيرات العامية العراقية بالرغم من اندثار الحضارة السومرية قبل آلاف السنين، ومن الغريب أن اسم أحد أبواب إحدى أقدم المدن العربية في التاريخ وهي الموصل اسم سومري مازال يستعمل إلى حد الآن. ومثبت في الوثائق الرسمية. وهو باب "لكش" المتجه إلى جنوب العراق، بالرغم من أن لكش هذه مدينة أهملت بعد حمورابي وطواها النيسيان.
ما سرّ احتفاظ العراقيين بالأسماء غير العربية؟
أمثلة أخرى:
أكو طوز هوايا فوق الجرباية.
ومعناها: يوجد غبار كثير فوق السرير.
يضرب المرحوم فاضل عبد الحق العبارة أعلاه مثالاً على انتقاء اللهجة العراقية لألفاظ معينة لتزيين رقعة الفسيفساء التراثية.
أكو سومرية يوجد
طوز تركية غبار
هوايا مغولية كثير
فوق عربية
جرباية فارسية. السرير
إذا سمع أي عراقي عبارة: يوجد غبار كثير فوق السرير. يفهمها حق الفهم ولا يحتاج إلى شارح أو مترجم. لكنه عندما يتكلم عن نفس المعنى يقول: أكو طوز هوايا فوق الجربايا.
ومن يتتبع اللهجة المحلية في العراق يراها تحتفظ بألفاظ أشبه بمعادن صدئة تحتاج إلى من يحك ذلك الصدأ ليستخرج لآلئ ثقافية تاريخية مهمة، فمثلاً يطلق العراقيون على الفوضى كلمة هوسة. وهي غير عربية، لكني عرفت بعدئذ أن كلمة هوسه تطلق على إحدى أكبر القبائل الإفريقية. وقرأت عن اتفاق قديم جرى بين تجار أثرياء في زمن الدولة العباسية وبين شيوخ تلك القبيلة لتصدير عمال زراعيين، يعملون في البصرة ثم تكاثر هؤلاء حتى عُدوا مئات الألوف، ومن ثم تزعمهم شخص تدعي كتب التاريخ أنه فارسي، لكني لا أعتقد بذلك. ألحق زعيمهم نسبه بالرسول وثار بهم، واحتل البصرة وخربها، ودمرها تدميراً كاملاً بحيث أنه استطاع أن يمحو معظم آثارها، وكانت تلك أعظم ثورة يقوم بها العبيد في التاريخ، واستمرت أربعة عشر سنة بالمقارنة مع ثورة سبارتكوس التي لم تدم سوى بضعة أشهر. قضى الخليفة الموفق على الزنج، لكن بعد فوات الأوان، فأصبح خراب البصرة مثلاً شائعاً في الأدب العربي. فيقال دائماً: "بعد خراب البصرة"
ما آلت إليه البصرة يعزى إلى فوضى تسببت بها قبائل الهوسه فأطلق العراقيون لفظة هوسه على كل فوضى.
. وهنا يعود السؤال مرة أخرى: لماذا يحتفظ العراقيون بآثار الماضي وكلماته حية إلى حدّ الآن؟
جميل جمال.
جميل جمال مالوش مثال
صدق اللي آل جميل جمـال
هذا هو المقطع الأول لكلمات أغنية المرحوم فريد الأطرش السوري الجنسية والمصري لحناً وغناءً وفناء ولهجة وحباً وهجراناً وحياة وموتاً. غناها فريد الأطرش يطري فيها جمال الراقصة الغادة السمراء الجميلة سامية جمال التي أثرّ فنها في عموم الوطن العربي آنئذ.
لكن الأغنية لا علاقة لها بموضوعنا إلا بتاريخ هذين الاسمين.
يعتقد كثير من المؤرخين أن أقدم اسم عربي هو يعرب والد قحطان اليمني، وأخذوا ذلك عن الرواية الشفوية التي سجلت بعد الإسلام. لكن الوثائق المستخلصة من الرقائم الآثورية والبابلية والسومرية تذكر أن اسمي جمال وجميل كانا شائعين في الزمن السومري والأكدي والبابلي. إن اسم جمال مأخوذ من الجمل. لأن الجمل حيوان وسيم جداً ومن ينظر إلى الجمل عن قرب يرى فيه معالم كبرياء وأنفة وتناسق شديدة، ومن الجمل اشتق العرب المصدر جمال والفعل جَمُلَ ومئات الكلمات الأخرى ومنها جميل كصيغة مبالغة للجمال. ومن أنثى الجمل "الناقة" اشتق العرب الشق الثاني من الجمال وهو الأناقة والتناسق. ولا توجد أي لغة شقيقة للعربية كالأكدية والبابلية والعبرية والآشورية والأثيوبية الخ فيها ما يعني الجمال والأناقة بنفس الأحرف.
إذن فكلمتي جمال وجميل هما أقدم اسمين عربيين في التاريخ كانا متداولين منذ أكثر من خمسة آلاف سنة ولحد الآن.
استعملت كلمة جميل أكثر من جمال. بسبب أن جميل صفة، وجمال مصدر، ولم تستعمل جمال إلا في العصور القديمة والعصر الحديث، أما كلمة جميل فكانت تستعمل باستمرار، وأول مومس اشتهرت في العصر الإسلامي كانت أم جميل، وهي من الكوفة وتسببت في القضاء على مستقبل أحد أدهى دهاة العرب السياسيين المغيرة بن شعبة، فقد كان والياً لعمر بن الخطاب، وشهد ثلاثةٌ أنهم رأوا المغيرة في وضع مشبوه معها، وعندما سألهم عمر أ رأيتم الميل في المكحلة قالوا نعم. فقال لهم أين رابعكم؟ وأقام عليهم الحد، لأن المفروض أن يكون عدد الشهود أربعة لكنه عزل المغيرة ورماه في مزبلة التاريخ، فلم تقم له قائمة حتى مات.
الطعام.
لست أدري هل هناك شعب غيرنا يحتفظ بأكلات يعود أصلها إلى أكثر من ألف سنة؟
نعم لكن ليس مثلنا فلم أعثر إلا على مثل واحد. فقد دخلت التأريخ أم علي بأكلة لذيذة ما زالت تعدّ في مصر من الحليب والحلوى.
ودخلت بوران زوجة المأمون التأريخ بأكلة أخرى في العراق هي البورانية وتعد من الباقلاء الخضراء ولحم الضان بالثوم والتوابل وقليل من الرز.
لكن هناك عشرات الأكلات ظلت في العراق منذ العصر العباسي وإلى حد الآن. منها الهريسة، الكليجة، اللوزينة، المحلبية، ومن يتتبع كتب التراث يرى المئات منها، لكني أشير إلى ما صادفني في قراءاتي وهي قليلة مقارنة بالمختصين. ولا يزال المواصلة يستعملون إلى الآن كلمة جلاب للماء البارد، الرز المفلل وهي إرث عباسي.
وكلا اللفظتين كانتا مستعملتان في العصر العباسي أيضاً.
فرقعة الإصبع.
ذكر أحد كتب التراث أن ثلة من القضاة الأصدقاء كانوا يسهرون في العهد العباسي المجيد على الكاس والطاس وأغاني الكواعب الملاس. وحينما يأخذ الطرب منهم مأخذه يخلعون العذار ويغمس كل منهم لحيته بالشراب ويرشه على الآخرين كماء الورد، وأنهم يتجاوبون مع الشادن الصداح فيرددون مقاطع الأغنية ويفرقعون الأصابع.
الخبر عادي جداً بحيث ترى مثيلاً له الآن في أي بار من بارات شيكاغو أو لندن أو القاهرة أو باريس أو بغداد. لكن ما يستلفت النظر هو فرقعة الأصابع.
فما هي فرقعة الأصابع الخالدة تلك؟
هي إخراج أصوات معينة بتحريك سبابة اليمنى إلى فراغ السبابة والخنصر من اليد اليسرى فيحدث صوت يستعمله المطربون.
الاستنتاج.
مما تقدم نرى أن العراقيين يتفردون عن سائر معاصريهم من الشعوب الشقيقة والمجاورة بتمسكهم بأشياء صغيرة من الماضي ليست بذي بال أشبه بالنمنم الملون. فما سبب هذا التمسك وهل هو ظاهرة صحية أم مرضية.
في رأيي يعود تمسكهم بهذه المنمنات لأن العراق كان مركز إمبراطورية حضارية أولى لمدة أكثر من خمسة آلاف سنة، والتمسك في الأصول مع تطويرها مبدأ أساس في كل حضارة.
ولا شك أن الازدهار الحضاري الذي بلغ أوجه في العهد العباسي يرجع إلى ثقة العراقيين آنئذ بأنفسهم وبلغتهم ففتحوا الأبواب لكل كلمة أجنبية تدل على معنى جديد، ولم يطردوها ويبحثوا عن لفظة عربية معاصرة فقد كان القرآن الكريم لهم مثلاً أعلى في الفاظ أجنبية كثيرة تبناها كإستبرق وجهنم وطه وياسين ..الخ.
فالانفتاح على لغة أجنبية لا يشين لغة حية إطلاقاً.
* روائي عراقي