الرسول صلى الله عليه وسلم والشعر

في سيرة الرسول صلى الله عليه
وسلم منهج رائع للتعامل مع
الكلام تلقياً واستماعاً
وإلقاء وصياغةً وحسن ردٍّ،
وقدرة على إلزام الخصوم
بالحجة والدليل.




هذا المنهج مؤيد بالتزام الحق
والثبات عليه، والعزم الصادق
على إظهاره وبيانه دون مجاملة
ولا خوف من أحد.




ويهمنا في هذا المقال أن نلقي
الضوء على جانب من هذه السيرة
العطرة فيما يتصل بموضوع
الشعر ونقده والحكم عليه،
باعتبار أن الشعر كلامٌ له
أثره الكبير في توجيه حياة
العرب، وصناعة الرأي العام
لديهم، وتناقل آثارهم ومآثرهم
ومفاخرهم. كما أن الشعر
بمجمله موضع اهتمام قطاع كبير
من الأدباء والشعراء
والمثقفين، في كل عصر من
العصور.




اتهام الرسول بقول الشعر




نقرأ في سيرة الرسول صلى الله
عليه وسلم أن المشركين اتهموه
بأنه شاعر، وأن القرآن الذي
يقرؤه على مسامعهم شعر.





ولم تكن هذه التهمة إلا
محاولةً منهم لصرف الناس عن
القرآن، ومنعهم من إتباعه،
فالذين أطلقوها ورددوها خرج
من بينهم من ينفيها، ويؤكد أن
القرآن ليس بشعر، كما يتجلى
في قول الوليد بن المغيرة حين
ردّ على هؤلاء بقوله عن
القرآن: "إنه لمورق أعلاه،
مغدق أسفله، وإنه ليعلو وما
يُعلى عليه، وما يقول مثل هذا
بشر".




وكان للقرآن الكريم موقفه حيث
رد هذه التهمة بقوله تعالى:

(وما علمناه الشعر وما ينبغي
له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين*
لينذر من كان حياً ويحق القول
على الكافرين)







لكن هذا لا يمنع أن يستمع
الرسول صلى الله عليه وسلم
للشعر وينقده، فيستحسن الحسن
منه، ويحث عليه، ويرفض الردئ
منه وينهى عنه. ومن هنا يمكن
أن نتحدث عن موقف الرسول صلى
الله عليه وسلم من الشعر،
وسماعه له، وحث القادرين من
أصحابه على قوله، واستخدامه
في الدعوة والجهاد والعمل،
والترويح به عن النفس في
أثناء السفر...




كان للرسول صلى الله عليه
وسلم شاعرٌ ينافح عنه، وعن
الإسلام، ويهجو المشركين،
مبيناً مثالبهم واعوجاجهم.




هذا الشاعر هو حسان بن ثابت
الأنصاري، الذي ملك ناصية
الشعر والبيان، وكان مقدماً
بين شعراء عصره، لقوة شعره
وسرعة بديهته، وحسن تأتِّي
الشعر له.




وقد كان الرسول صلى الله عليه
وسلم يضع لحسان منبراً في
المسجد، ليقوم عليه فيقول
الشعر، وكان الرسول يقول له:

"قل وروح القدس [أي:
جبريل]

معك"، ويقول:

"إن الله يؤيد حسان بروح
القدس ما ينافح عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم".




وهذا يؤكد أهمية الشعر، وأثر
الإعلام في نصرة الدعوة
وقضاياها، وتسجيل مآثرها
وفضائلها.




ولم يكن حسان بن ثابت الشاعرَ
الوحيد، بل كان هناك كثيرون،
منهم كعب بن مالك، وعبد الله
بن رواحه رضي الله عنهم
جميعاً.




وقد ثبت عن الرسول صلى الله
عليه وسلم استماعه الشعر،
وطلبه من أصحابه أن يرددوا
عليه شيئاً منه، ففي صحيح
البخاري أنه كان ينشد مع
أصحابه:




تالله لولا الله ما اهتدينا
ولا تصدقنا ولا صلينا




إن أولاء قد بغوا علينا إن
يطلبونا خطة أبينا




ويمد بها صوته، وكذلك كان
ينشد في حفر الخندق:




اللهُمَّ لا عيش إلا عيش
الآخرة فاغفر للأنصار و
للمهاجرة




وكان الصحابة ينشدون بين
يديه:




نحن الذين بايعوا محمدا على
الجهاد ما بقينا أبدا




وكان ينشد في بناء المسجد:




هذا الحمال لا حمال خيبر هذا
أعز ربنا وأطهر




يقصد بذلك أن ما يحمله هو
والمسلمون من اللبن لبناء
المسجد خير وأفضل من التمر
والطعام الذي يُحمل من خيبر
ليباع في الأسواق، وذلك لأن
بناء المسجد يُقصد به تعظيم
شعائر الله تعالى، والدعوة
إلى توحيده وعبادته.







وقد أذن الرسول لعامر بن
الأكوع أن ينشد بين يديه في
غزوة خيبر فأخذ عامر يحدو
قائلاً:




تالله لولا الله ما اهتدينا
ولا تصدقنا ولا صلينا




فأنزلن سكينة علينا وثبت
الأقدام إن لاقينا




إن الأولى قد بغوا علينا إذا
أرادوا فتنةً أبينا




فدعا له النبي بالمغفرة، وفي
موقف آخر نجده صلى الله عليه
وسلم يأذن لأنجشة أن يحدو بهم
وهم في سفر، فصار أنجشة يحدو،
وكان رجلاً جميل الصوت، فنشطت
الإبل وأخذت تسرع في المسير،
فقال له النبي صلى الله عليه
وسلم: رفقاً بالقوارير يا
أنجشة. يقصد النساء، لأن
الإسراع بهن قد يكون فيه مشقة
عليهنّ.




ومن طريف المواقف ما رواه
عمرو بن الشريد عن أبيه قال:
ردفت النبي صلى الله عليه
وسلم في سفر، فقال:

(أعندك شيء من شعر أمية بن
أبي الصلت)؟ قلت: نعم.
قال: أنشدني. قال: فأنشدته
بيتاً. فقال:

(هيهِ) يعني: زدني.
فأنشدته بيتاً. فقال:

(هيه). فأنشدته بيتاً.
فقال:

(هيه). حتى أنشدته
مائة بيت. فقال صلى الله عليه
وسلم:

"إن كاد ليسلم"، وفي
رواية أنه قال:

"ذاك رجل آمن لسانه وكفر
قلبه".







وحين أنشد النابغة الجعدي بين
يدي الرسول قصيدته التي يقول
فيها:




بلغنا السماء مجدنا وسناءنا =
وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا




قال له الرسول صلى الله عليه
وسلم:

إلى أين يا أبا ليلى؟
فقال: إلى الجنة بإذن الله.
فقال صلى الله عليه وسلم:

لا يفضض الله فاك.




هكذا نجد الرسول صلى الله
عليه وسلم يستمع الشعر، ويحكم
عليه وينقده، ويستخدمه في
أغراض الدعوة ومقاصدها،
ويوجهه الوجهة الصحيحة
الراشدة، ليعلم الناس أن في
الإسلام فسحةً ومتسعاً،
وليدركوا أن الشعر كلامٌ،
حسنه حسن وقبيحه قبيح، وإنما
يُحكم على الكلام بما يتضمنه
من المعاني والدلالات.




والرسول صلى الله عليه وسلم
يجلي ذلك بقوله في موطن من
المواطن:

"لئن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً
حتى يريه خير من أن يمتلئ
شعراً"، يقول ذلك في
معرض رفضه للشعر الفاجر السيء،
في حين نجده يقول:

"إن من الشعر لحكمة".
مؤكداً على أن في الشعر من
الحِكم والفوائد ما يجعله
جديراً بأن يُسمع ويُقرأ
ويستفاد مما فيه.




وهي دعوة لنا إلى نبذ الشعر
البذيء الداعي إلى المفاسد
والمساوئ، والاهتمام بالشعر
الجميل الرصين المبدع، الداعي
إلى أحاسن القيم، ومكارم
الأعمال والأخلاق...


مستجمع للفائدة